
نشأة وتطور جبهة التحرير الفلسطينية
جبهة التحرير الفلسطينية انطلقت عام 1959 وأعلنت حضورها في السابع والعشرين من نيسان عام 1961، وهو اليوم الذي شهد العودة للإسم القديم للجبهة، وذلك حتى لا يحدث أي لبس بين هذا اليوم وبين تأسيس الجبهة، حيث أن الجبهة أسست قبل هذا التاريخ بزمن طويل، وتحديداً منذ بداية عام 1961 على يد مجموعة من الشباب الفلسطيني المتحمس في مخيمات اللجوء، حيث اتفقوا على تأسيس تنظيم فلسطيني يحمل اسم جبهة التحرير الفلسطينية يعتمد الكفاح المسلح طريقاً وحيداً لمواجهة العدو الصهيوني وتحرير فلسطين من خلال تحشيد طاقات الشعب الفلسطيني والمساهمة الجادة في معركة تحرير فلسطين باعتبار أن الفلسطيني يجب أن يكون بالضرورة السبّاق نحو الفعل الوطني بدعم وإسناد واسع من الجماهير العربية وقوى التحرر الوطنية والعالمية.
وقد مرّت الجبهة بتجربة سياسية تنظيمية واسعة، وشهدت تجارب توحيدية وأخرى انقسامية – إن جاز التعبير – حيث كان السابع والعشرين من نيسان واحداً من المحطات المصيرية في تطور الجبهة التي مثلت جزءاً من تاريخ شعبنا الفلسطيني وتاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، وإحدى أهم محطاتها المصيرية.
البدايات
إن فشل التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا، كان من أهم الأسباب التي سرّعت بولادة الجبهة، حيث أن التجربة الوحدوية العربية الأولى في ذلك التاريخ منحت الوجدان الشعبي العربي والفلسطيني طاقات خلاقة وآمال كبرى للعمل على تحقيق أحلام شعبنا العربي عموماً وحلم الشعب الفلسطيني في العودة إلى فلسطين خصوصاً. وتم الرهان الواسع على إمكانية أن تتحقق هذه الوحدة مع بدايات جدية للعمل العربي، وكان الفلسطينيون أكثر الشعوب العربية تأييداً لهذه الوحدة وساهموا في جميع مناطق تواجدهم مساهمة فعالة في العمل على مساندتها ودعمها بهدف إنجاحها باعتبارها طريق تحرير فلسطين ولكن لم يقدر لهذه التجربة أن تستمر، فقد سقطت قبل أن تتكامل بناها الرئيسية وبفعل الكثير من الأمور التي لسنا بصدد ذكرها الآن.
إن فشل هذه التجربة أدى إلى انكسار بنية الحلم الكبير الذي كان يرى فيه الشعب طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين، ومن هنا كان تأسيس الجبهة رداً مباشراً على هذا الانكسار، حيث شهدت التجمعات الفلسطينية نقاشات مكثفة للجواب على السؤال الاستراتيجي الدائم، ما العمل؟ وجاءت إجابات البعض عملية وهي بأن يبني الفلسطينيون النواة الرئيسية للفعل الثوري وبالتالي تبني مفهوم حرب الشعب طويلة المدى خياراً وحيداً. وقد أغنت هذه الحوارات تجارب ثورية معاصرة أبرزها التجربتين الجزائرية والكوبية، حيث قدمت هاتان التجربتان نموذجاً كيف حملت شعوب العالم على عاتقها مهمة التحرر من خلال زج طاقات الجماهير الخلاقة ولكنها تمكنت من الانتصار.
علاقة الوطني بالقومي
إن الانفصال بين سوريا ومصر سرّع بولادة الجبهة، وأن ولادتها مثلت رد فعل ثوري عليه، فكانت التجربة الجبهوية تكريساً لما هو قومي بدءاً من الوطني ومن خلال التجربة ازدادت قناعتنا أنه كل ما تعززت إنجازاتنا الوطنية وكلما نجحنا بتوحيد جهدنا الوطني كلما نجحنا أكثر في التأثير الإيجابي على المدى القومي، ولكننا في ذات الوقت كنّا ندرك أن المفهوم القومي، هو المفهوم الجماهيري الواسع وليس المفهوم الرسمي السائد، والتي كانت الجبهة في جانب من جوانبهاً رداً على سلبيته، ولم يتزعزع إيماننا بقدرات أمتنا العربية وكون فلسطين جزء لا يتجزأ من الوطن العربي والشعب الفلسطيني جزء من أمته العربية، وأن على الشعب الفلسطيني أن يكون الطليعة الكفاحية للأمة العربية من أجل حل القضية الفلسطينية وإسنادها، ومن هنا نرى أن انطلاقة الجبهة كانت تعزيزاً للمفهوم القومي ومحاولة رائدة للصهر بين ما هو وطني وما هو قومي.
تجربة وحدوية لم ترى النور
المرحلة التي شهدت تأسيس الجبهة، كانت تعيش حراكاً فلسطينياً إذ شهدت تشكيل العديد من المجموعات الفلسطينية منها مَن كُتِبَ له الاستمرار ومنها مَن ذاب أو توحد مع مجموعات أخرى..
بالفعل كان هناك العديد من المجموعات في طور التأسيس. ولعب التوزع الجغرافي لشعبنا دوراً إلى حد كبير وكذلك سرية العمل في تلك المرحلة دوراً مهماً في عدم توحيد صفوفها. فعلى سبيل المثال إن تجربة فتح أسبق من تجربة الجبهة، ولكن كان هناك فارق جغرافي فبينما نمت فتح وترعرعت بين قطاع غزة ودول الخليج. فإن جبهة التحرير الفلسطينية نمت وترعرعت في سوريا ومن ثم في الأردن، ولم تكن هناك أي صلات بين التجربتين أو بين مجموعة التجارب الموازية.
وكانت الجبهة تستشعر وجود نواة لفعل فلسطيني مؤثر في مناطق أخرى لذلك اقتضت الظروف أن تعمل بسرية مطلقة وباستقلالية واسعة، مما قلص من فرصة التواصل إلا عبر بعض النشرات الإعلامية التي كانت تصدر هنا وهناك. وعندما أعلنت فتح عن ولادتها بشكل رسمي في الفاتح من يناير (1965). كانت الجبهة قد قطعت شوطاً لا بأس به على طريق الإعداد والتدريب ولكن كوادر الجبهة الدنيا ضغطت على قيادة الجبهة في ذلك الوقت من أجل التوصل مع هذا التنظيم الذي ينطلق من أرضية قناعتنا ويتبنى نفس البرنامج والأهداف، ويعتمد نفس الأسلوب إلى الوحدة. وفعلاً نتيجة لضغط الكادر الجبهوي عقدت قيادة الجبهة عدة لقاءات مع قيادة فتح وتم التوصل إلى اتفاق أولي لوحدة التنظيمين فشكلت نواة لقيادة موحدة، ولكن لم يقدر لهذه التجربة أن ترى النور وذلك بسبب التدخلات العربية التي بدأت تلتفت أكثر إلى العمل الفلسطيني حيث بدأت بعض الأنظمة العربية تحاول التأثير على اتجاهات بعض القوى الموجودة. كما بدأت تظهر بعض التعارضات هنا وهناك والنتيجة أن هذه اللجنة لم تنجح بصياغة البرنامج المشترك وبناء الوحدة الموعودة، واستمرت الجبهة بالعمل بشكل مستقل عن فتح وتمكنت من تكريس هويتها النضالية والسياسية ومارست الكفاح المسلح جنباً إلى جنب مع قوات العاصفة وذلك عبر جهازها العسكري المستقل.
عملية ديشوم
أول عملية عسكرية معلنة كانت في بداية عام 1967 في قرية "ديشوم" شمال فلسطين وقد تم الإعلان عنها بسبب أنه سقط فيها أول شهيد للجبهة وهو الشهيد خالد الأمين.
فقبل هذا التاريخ كان هناك بضع عمليات لم تعلن عنها بسبب ظروف العمل السري التي لم تكن تسمح بالإعلان. وقد استخدمت بها أسلحة بسيطة فالأسلحة التي كانت متوفرة بين أيدينا في تلك المرحلة، كنا نحصل عليها بشق الأنفس وهي بشكل أساسي مقتصرة على الألغام والمتفجرات، أما الأسلحة الأخرى فحصلنا عليها من السوق المحلي ويعود تاريخها إلى الأربعينات.
هزيمة الـ67
لبّت الجبهة نداء الواجب في حرب الـ67 واستنفرت كوادرها وأظهرتتهم للعلن باعتبار أن المعركة هي الحاسمة فكانت الفرصة الأولى التي يتعرف فيها أعضاء الجبهة على قيادتها وان تشخص الحالة في شكلها العلني.
وفي العمل الميداني خلال الحرب، نجحت الجبهة في إيجاد موقع قام بزج كتلة من كادراتها المدربة باتجاه الجولان، حيث أخذ بضعة عشرات من رفاقنا مواقعاً لهم في أرض المعركة، لكن لم يقدر لهذه التجربة الاشتباك مع العدو حيث أن ظروف المعركة لم تمنح الناس فرصة للقتال، وعقب الحرب مباشرة، اخترقت مجاميع من رفاقنا المدربين خطوط العدو لجمع الأسلحة المتبقية في أرض المعركة وتمكنت من جمع كمية كبيرة من الأسلحة والأعتدة، وهذه الأسلحة بدورها مثلت أسلحتنا الأساسية في تجربتنا القتالية اللاحقة.
وعلى صعيد آخر إن نتائج حرب الـ67 المعروفة للجميع برهنت على صحة توجهات الفصائل الوطنية الفلسطينية ومنحها فرصة أكبر للتواجد على الأرض بشكل فعال، لتؤسس بنفسها لمرحلة جديدة من مراحل العمل الثوري. وهي المرحلة الممتدة من عام 67 إلى عام 70.
ولادة الجبهة الشعبية
قبيل حرب حزيران بدأت تظهر على الساحة الفلسطينية العديد من التنظيمات، أبرزها الذي أُطلق عليه "شباب الثأر" وتنظيم "أبطال العودة"، وكذلك تنظيم آخر أقل شأناً اسمه "منظمة فلسطين العربية".
وسرعان ما تم الحوار بين منظمة فلسطين العربية وجبهة التحرير الفلسطينية أسفر عن اندماج بينهما وانضم إليهما شباب الثأر وأبطال العودة بوحدة اندماجية عسكرية وأطلق عليها اسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
ولكن هذه الوحدة لم تدم طويلاً حيث أنها لم تصمد سوى أشهر قليلة وذلك لأنها تمت بوقت قصير إذ أن هذه القوى أرادت أن ترد على هزيمة الـ67 بإعلان وحدتها دون أن يتم الاتفاق على الكثير من الأمور الجوهرية، وهذا ما عكس بشدة على التجربة الوليدة، إذ سرعان ما بدأت ترتسم على أرض الواقع ظلالاً من الشك والاختلاف بسبب الفوارق الجوهرية التي يمتلكها كل فصيل على حدى.
إلا أن حركة القوميين العرب كانت مؤسسة قومية واسعة ومؤثرة تماماً و لها علاقاتها الدولية والقومية، و لها رؤيتها وبرنامجها الاستراتيجي، بينما تجربة جبهة التحرير الفلسطينية السياسية والفكرية لم تكن قد نضجت بعد.. هذا إلى جانب أن الظرف العربي لم يكن ليساعد على تجسيد وتكامل هذه الوحدة. فسرعان ما انفك عقدها بأن أعلنت جبهة التحرير الفلسطينية فك ارتباطها بالتجربة. وقد ميزت جبهة التحرير الفلسطينية نفسها بإسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة" وهو الإسم الذي كان يطلق على القيادة العسكرية للجبهة الشعبية، والتي كانت في معظمها من جبهة التحرير الفلسطينية، أما القسم الثاني فحمل اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "المكتب السياسي" حيث كان المكتب السياسي في معظمه من رفاقنا في حركة القوميين العرب.
ومما يسجل لهذه التجربة الوحدوية أنها وبالرغم من قصر عمرها الزمني إلا أنها حققت قفزة مهمة في العمل العسكري ضد العدو الصهيوني.
الكرامة
مثلت معركة الكرامة مفصلاً هاماً في تاريخ الثورة الفلسطينية، ترك بصماته على تطورها اللاحق وكانت الجبهة موجودة في قلب الحدث إلى جانب مقاتلي فتح وقوات التحرير الشعبية والجيش الأردني الذين تصدوا للهجوم الصهيوني الغادر.
إن بسالة التصدي لمقاتلي الثورة الفلسطينية ومجموعات من الجيش الأردني أدت إلى إلحاق ضربات مؤذية بالقوات الصهيونية الغازية، كانت بمثابة رد ثوري على هزيمة حزيران، مما أعاد الاعتبار للإنسان العربي والإنسان الفلسطيني وعزز الثقة بالإمكانات الذاتية، وأضاف زخماً آخراً للكفاح المسلح الفلسطيني على كافة المستويات.
وبإمكاننا أن نسجل أن معركة الكرامة كانت مفصلاً ما بين تاريخين، ما قبل الكرامة وما بعد الكرامة، فما بعد الكرامة تم تأسيس جديد لواقع قتالي آخر اختلف اختلافاً كلياً عن الواقع الذي ساد، ووجود الثورة الفلسطينية في الأردن الذي كان سرياً ولم يكن قد امتلك ما يكفي من القوة لفرض وجوده تحول ما بعد الكرامة إلى وجود علني يستند إلى الشرعية النضالية التي مثلها، كما حدثت نقلة نوعية في المؤسسة الفلسطينية المقاتلة، تم التعبير عنها بتصعيد العمل العسكري ضد العدو الصهيوني. ومن نتائج معركة الكرامة أيضاً، التحولات التي طرأت على بنية منظمة التحرير الفلسطينية والتي تمثلت باستلام فصائل الكفاح المسلح لزمام الأمور فيها، فتحولت المنظمة من حالة بيروقراطية سياسية معنوية إلى حالة الفعل المباشر يقودها أصحاب فكرة الكفاح المسلح، حيث تم اختيار الأخ أبو عمار رئيساً للمنظمة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن "أيلول" لم يكن نتيجة التعارضات التي ميزت العلاقة بين النظام الأردني والثورة الفلسطينية فحسب، بل ساهم فيه القرار العالمي والمشروع الأميركي، الذي اصطدم بالرفض الفلسطيني الواسع لمشروع روجرز، والذي بدأ يستشعر الخطر من تطور الثورة الفلسطينية التي بدأت تستأثر الاهتمام الشعبي العربي الواسع، وتؤثر فعلاً في الوضع العربي، إلى جانب أن الثورة الفلسطينية بدأت تستأثر باهتمام الثورة العالمية، وتنسج شبكة واسعة من العلاقات مع هذه القوى، فكانت ترى في الأردن كافة ألوان الطيف من فصائل الثورة العربية وقوى الثورة العالمية ولهذا نرى أن الأردن كان – في تلك الفترة – مرجل ومصنع ينتج الثورة، وهكذا بدأت قوى الثورة المضادة تحشد قواها لضرب هذه الظاهرة، حتى تم الحد من تطورها ومن تأثيرها على الأنظمة العربية، ويلحق ضرراً في المشروع الأميركي في المنطقة.
ومن أهم التغيرات التي حدثت في عام 1970 استشهاد رمز القومية العربية الزعيم جمال عبد الناصر، وقد كان لغيابه آثاراً في غاية الخطورة وكذلك تغيير بنية النظام في سوريا بحيث أصبح أكثر استعداداً للتعاطي مع مشروعات التسوية في المنطقة.
وهكذا، فإن عام السعبين يعتبر مفصلاً هاماً، إذ اتخذ الوضع العربي بما فيه الوضع الفلسطيني اتجاهات جديدة ما زالت تؤثر في المسار الفلسطيني والعربي حتى الآن.
تطور الفكر السياسي
قبيل أيلول بدأت تهب على الجبهة رياح التغيير الفكري والسياسي، إذ تأثرت إلى حد بعيد بوحدتها مع حركة القوميين العرب، وتأثرت بما لمسته على الساحة الأردنية من ممارسات على الأرض واغتنت بالأفكار التقدمية والقومية، وأصبحت هذه المسائل تتفاعل داخل الجبهة التي بدأت تبحث لها عن دور سياسي أوسع وعن هوية فكرية ترسم معالمها، فأثارت داخل الجبهة نوعاً من الحوار الجدي بين أصولية وطنية متزمتة وبين قوى وطنية ديمقراطية منفتحة، وقد شهد المؤتمر العام الثاني للجبهة إرهاصات هذا الجدل إذ سمعت فيه آراء وأفكار مختلفة حول بنية التنظيم وهويته السياسية.
وبعد أيلول، كانت هذه الأسئلة أكثر إلحاحاً، إضافة إلى أسئلة من نوع، ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وهل كان بالإمكان تفادي ما حدث؟ ومَن هو المسؤول؟ وكذلك أسئلة داخلية حول الكفاءة في الأداء وحول دور الأفراد، والكثير من هذه الأسئلة، وكما هو معروف فإن الهزائم تولد الكثير من هذه الأمور.
وكان المؤتمر العام الثالث الذي عقد بعيد أيلول الساحة التي طرحت فيها هذه الأسئلة بعمق، غير أن المؤتمر لم ينجح في إحداث تغييرات جوهرية واكتفى بأن منح قيادة الجبهة التاريخية الفرصة لإعادة البناء من جديد، بينما ظلت قضايا الخلاف الفكرية والسياسية عالقة، لتلقي بظلالها على المؤتمر العام الرابع.
مثّل المؤتمر العام الرابع مفصلاً مهماً في تاريخ الجبهة، فقد تمكن من الخروج بالبرنامج السياسي والنظام الداخلي بوضوح فلم يعد الميثاق وحده هو الذي يحكم علاقاتنا الداخلية، ولم تعد القيادة التاريخية وحدها هي التي تقرر، ودخل البنية التنظيمية قيادة وكوادر جديدة انتخبت من القاعدة إلى القمة بشكل ديمقراطي تماماً، وهو ما مهّد الطريق لانفتاح الجبهة الشعبية "القيادة العامة" على ساحة العمل السياسي وعلى ساحة الفعل النضالي بأشكاله المختلفة.
كما وأسس المؤتمر العام الرابع لتطور مهم في الأداء السياسي والجماهيري وأرسى دعائم كبرى لمستقبل الجبهة، التي على أساسها تم تشكيل مجموعة من الهيئات والمؤسسات التنظيمية مكّنها من الفعل الإيجابي على أكثر من صعيد وعلى أكثر من مستوى.
حرب تشرين
بعد المؤتمر الرابع الذي عقد بين آذار ونيسان 72، اندلعت حرب تشرين وكانت الجبهة قد أعادت بناء نفسها على الأرض بشكل جيد، ونجحت الجبهة في القيام بدور إيجابي عبر الجبهتين اللبنانية والسورية، فقد تمكنت دوريات الجبهة على الساحة اللبنانية من العبور إلى الأراضي المحتلة والاشتباك مع قوات العدو الصهيوني والقيام بواجباتها الموكلة، أما على الجبهة السورية فقد قامت الجبهة وبالتنسيق مع الجيش السوري بالمهام التي تنسجم مع طبيعتها القتالية.
ونحن نعتبر حرب تشرين من الحروب المشرفة في التاريخ العسكري، بغض النظر عن مساحات وتكتيك الفعل العسكري الذي تم خلالها، فقد مثلت صفحة مشرفة جداً في التاريخ العربي وفي السجل القتالي للجندي العربي ولتكتيك العمل.
هذا النمو أفرز متغيرات مهمة جداً، وبدأت تظهر تعارضات وتناقضات بين الثورة الفلسطينية بأذرعها السياسية والعسكرية وبين بعض الأنظمة العربية، وأبرزها تلك التي سادت بين الثورة الفلسطينية من جهة والنظام الأردني من جهة أخرى والتي أدت بنهاية المطاف إلى أحداث أيلول التي أصبحت نتائجها معروفة.
إلاّ أن الرئيس السادات فاجأ العالم.. وصدم الشعوب العربية عندما طرح وخلال ذروة الفعل العسكري العربي مقولته (99% من الحل بيد أميركا) بما يعنيه ذلك من تغيير في التحالفات الإقليمية الدولية والاستعداد لعقد تسوية مع العدو الصهيوني، ثم ما حدث من فصل القوات على الجبهة المصرية والسورية واجتماعات بين المصريين والعسكريين. كل ذلك طرح معطيات جديدة أبرزها أنه للمرة الأولى في التاريخ العربي المعاصر يظهر للسطح استعداداً لعقد صفقة سياسية مع الصهاينة تقر بوجود الكيان الصهيوني، وتبحث عن بعض الحلول للحقوق العربية وبالطبع لم تنسجم هذه الأفكار والأطروحات مع رؤيتنا وأفكارنا السياسية، فرفضت من قبلنا بشدة كما رفضت من معظم القوى الفلسطينية باستثناءات محدودة لبعض القوى التي ارتأت أن الفرصة ملائمة للحديث حول بعض الإنجازات الوطنية، وارتسمت صورة جديدة من صور التحالف السياسي داخل الساحة الفلسطينية عبّر عنه بموقفين رئيسيين، موقف ينادي باستثمار ما يجري من أجل بناء سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من الأرض الفلسطينية، يندحر عنه الاحتلال، وموقف يقول أن موازين القوى السائدة في هذه المرحلة لا تسمح بذلك، مما يستدعي تشديد النضال لتحقيق الأهداف وتغيير موازين القوى القائمة، وقد عبّر الموقف الثاني عن نفسه بتشكيل "جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلامية" شاركت فيها إلى جانب الجبهة الشعبية "القيادة العامة" الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وجبهة التحرير العربية، أما الموقف الأول فكان عنوانه فتح والجبهة الديمقراطية والصاعقة، وهكذا ظهر على الساحة الفلسطينية، ولأول مرة صراعات سياسية حول محاور ائتلافية، وكل محور يسعى إلى التشييع لرؤيته وفكره، ولكن ما يسجل لهذه التجربة أن التشييع للفكر السياسي تمثل بنفس الأدوات إذ حاولت جبهة الرفض تطوير أدائها ضد العدو الصهيوني لتحقيق شعارها، ونفس الشيء سعت إليه القوى التي نادت بالسلطة إذ شيعت لفكرها السياسي من خلال تصعيد الاشتباك مع العدو الصهيوني مما يمكننا القول أن هذه الخلاف انعكس بشكل إيجابي على الساحة الفلسطينية إذ وكان محفزاً لتطوير الأداء التالي الفلسطيني.
عملية الخالصة "كريات شمونة"
بعد الاستعداد العربي لعقد صفقة سياسية مع العدو الصهيوني، بدأت الثورة الفلسطينية تتعرض لمضايقات عربية وأصبح من الضروري القيام بعمل عسكري يعطي الزخم المعنوي لجماهير شعبنا ويعبر عن الإصرار الفلسطيني لاسترجاع حقوقنا المشروعة، فكانت عملية الخالصة، وهي باكورة مدرسة قتال بخط جديد أسس لها وعمل على تأسيسها بعد المؤتمر الرابع وتم اختيار الكادرات والمدربين والمقاتلين الذين بإمكانهم تحقيق هذه الفكرة، وفي الخالصة تم اختيار الهدف بعناية ودقة وصدرت أوامر قتال بما يخدم الهدف السياسي الذي ستنفذ من أجله هذه العملية، ونجحت المجموعة في اختراق الحدود، واختراق أجهزة الأمن الإسرائيلي، وحسب الخطة المقررة نجحت في الاشتباك مع العدو فتم احتجاز رهائن، وحسب الخطة أنهيت العملية وكانت خسائر الجبهة ثلاثة شهداء، هم مجموع أفراد العملية، أما خسائر العدو فكانت بالعشرات وقد اعترف العدو بـ28 قتيلاً وعشرات الجرحى وبذلك تعتبر "الخالصة" من أنجح وأبرز العمليات القتالية في تاريخ العمل الفلسطيني حتى يومنا هذا.
شرارة الحرب اللبنانية
عودة للخلف قليلاً، وبالتحديد عندما خرجت الثورة الفلسطينية من الأردن، حيث بدأت تبحث عن موطئ قدم يتيح لها التماس مع العدو. ووجدت أمامها الساحتين السورية واللبنانية، ونتيجة لعدة عوامل، وضعت الثورة ثقلها الأساسي في لبنان ومن أهم هذه العوامل طبيعة الحدود اللبنانية مع شمال فلسطين، حيث التسلل منها اسهل بكثير من التسلل عبر الجولان، مما سهّل وجود خميرة ثورية تتمثل بالواقع الفلسطني في لبنان الذي كان يعاني من إجراءات المكتب الثاني القمعية، هذا إلى جانب وجود حركة وطنية لبنانية قوية ومتميزة، كل هذه العوامل سمحت للثورة الفلسطينية أن تنظم وضعها في لبنان.
في أجواء الغليان الاجتماعي والسياسي في لبنان وبعد استشهاد النائب معروف سعد نصبت مجموعة من حزب الكتائب كميناً عسكرياً لباص يقل مدنيين فلسطينيين كانوا قد انتهوا من المشاركة بمهرجان واسع لجبهة الرفض في الذكرى السنوية الأولى لعملية الخالصة، وأطلق الكمين النيران على المواطنين الفلسطينيين في طريقهم إلى تل الزعتر مروراً من عين الرمانة فكانت الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية في لبنان.
الولادة الثانية
تكثفت الأحداث وتسارعت وتيرتها، فالحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع قوات الثورة الفلسطينية واستشعاراً منها بالخطر الذي يمثله المحور الآخر – محور الجبهة اللبنانية – على عروبة لبنان ووحدته وعلى مشروعها الديمقراطي زجت بكل طاقاتها من أجل تحقيق مكاسب على الأرض تخدم برنامجها وتعزز وجودها، وفي المقابل تمادى المحور الآخر في مشروعه الانعزالي.
واتخذ الصراع أشكالاً عنيفة جداً تمثل في إحدى حلقاته بعزل المخيمات الموجودة داخل العمق الكتائبي، مثل مخيمي تل الزعتر وضبية، وحوصرت بالكامل، وتعرضت لهجوم وحشي ولمجازر فظيعة انتهت بترحيل سكان المخيمين.
في خضم هذه الأحداث كان ما يهمنا هو حماية شعبنا وثورتنا، والدفاع عن المخيمات، واستمرار تصادمنا مع العدو الصهيوني في جنوب لبنان.
هذا الواقع عكس نفسه على الأزمة التنظيمية والسياسية داخل الجبهة الشعبية "القيادة العامة".
من جانبنا سعينا بكل طاقاتنا لإخضاع هذه الخلافات لأطر الجبهة والاحتكام للنظام الداخلي والعقل والمنطق حتى نستطيع الخروج منها بأقل الخسائر.
أمام هذا الوضع والذي استمر لأشهر طويلة، تم التوصل إلى النتيجة المنطقية الوحيدة، وهي أن يعلن الطرف الموجود معنا والذي يمثل غالبية قواعد وكوادر الجبهة، تمايزه من خلال العودة إلى الأصول الرئيسية، وإلى إسم جبهة التحرير الفلسطينية، العنوان الذي ناضل مناضلونا الأوائل تحت رايته، وكان ذلك يوم 27 نيسان 1977، فاعتبر هذا اليوم، اليوم الوطني للجبهة.
وعلى الفور شرع بالاستعداد لعقد المؤتمر العام، وبعد أشهر قليلة تمكنّا من عقد المؤتمر العام الخامس استكمالاً لمؤتمرات الجبهة، وقد عقد في بيروت، حيث اضطر العديد من رفاقنا في الساحات والأقاليم، الوصول إلى مكان المؤتمر، وتمخض المؤتمر عن انتخاب قيادة مركزية قامت بدورها بتعيين مجلس مركزي.
وذلك كإجراء مؤقت، على أن تعقد الجبهة مؤتمرها القادم خلال عام واحد، بحيث تكون الجبهة قد استكملت وثائقها ورسمت معالم وجودها السياسي والنضالي.
صفحة مؤلمة
لقد حاولنا تفادي الاشتباك والاصطدام رغم كل المحاولات للإيقاع بالجبهة وكوادرها عبر استهداف مقر القيادة في بيروت، حيث تم تفجير مكتب الأمانة العامة، فأودي بعشرات الشهداء من رفاقنا ومئات القتلى الأبرياء من المواطنين الفلسطينيين واللبنانيين، فضمدت الجبهة جراحها وكرست جهدها للبناء الداخلي وتطويره ولاستكمال برنامجها التصادمي مع العدو.
عمليات مميزة
كما تفادينا قدر الإمكان الوقوع في فخ دوامة العنف، ونجحنا في فرض وجودنا الميداني عبر سلسلة من العمليات العسكرية المميزة ضد العدو الصهيوني أبرزها عملية نهاريا والزيب البحرية وبرختا في الجولان، وعلى الصعيد التنظيمي تمكنّا من بناء مؤسسات التنظيم على أسس ديمقراطية وبما يمكن من تحقيق الفعالية النضالية المرجوة، وعلى صعيد علاقات بالجبهة العربية، فقد نجحنا في صياغة علاقة قوية مع سوريا.
ونتيجة لـ"كامب ديفيد" وتداعياتها، بدأت الخطوط تتفتح أكثر على الوضع العربي، وعلى الصعيد الفلسطيني، ونجحنا بصياغة شكل من أشكال التعايش بين "القيادة العامة" وجبهة التحرير الفلسطينية إذ حافظت القيادة العامة على وضعها في منظمة التحرير الفلسطينية وتمكنا نحن من انتزاع شرعية وجود جبهة التحرير الفلسطينية في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات الجماهيرية والنقابية، وفتحنا مكاتب تمثيلية في أغلب الدول العربية التي لها مواقف مشرفة من القضية الفلسطينية، وفي عام 1979 عقدت الجبهة مؤتمرها العام السادس، الذي أقر وثيقة سياسية وأخرى تنظيمية وتم انتخاب لجنة مركزية انبثق عنها مكتب سياسي، وبذلك أرسى المؤتمر دعائم متينة لاستمرار الجبهة وتطورها.
مدرسة خاصة
إن نضالنا في الأساس، هو نضال من أجل الأرض، أرضنا التي احتلت، فالتماس مع هذه الأرض يمثل حالة وجدانية، لذك كان همنا هو كيف نشتبك مع العدو الصهيوني فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، وإن أخذنا بالاعتبار قواعد وأصول حرب الشعب، التي تقوم على فكرة أنه لا يمكن تدمير العدو عن طريق إنزال خسائر في أفراده ومنشآته دفعة واحدة بل من خلال مجموعة من الضربات والممارسات التي تربك العدو وتسقط نظرياته الأمنية والتأثير على نفسية جنود الاحتلال، وعليه، و لهذا إن فلسفتنا القتالية ركزت على عودة المقاتل الفلسطيني إلى الأرض بأشكال مختلفة والقتال عليها والاستشهاد فوق ترابها، وترجمة لهذه الفلسفة استخدمت الجبهة كل أساليب القتال المحتملة وإضافة إليها، استخدمنا الهواء عبر الجو والمياه في البحر واستخدمنا الأرض واستخدمنا ما تحت الأرض في بعض العمليات، ونجحنا نجاحات مميزة في تحقيق برنامجنا القتالي وأكاد أجزم أن الجبهة بين عامي 80 و81 بلغت درجة عالية في تطوير كافة وسائلها القتالية.
وعشية الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، كنا منهمكين في التحضير لأوسع عملية نستخدم بها الطيران الشراعي ضد العدو الصهيوني حيث كان من المفترض أن تغير يوم 5 حزيران 1982 أكثر من عشر طائرات شراعية دفعة واحدة على أهداف مختلفة ولكن الاجتياح الصهيوني للبنان اضطرنا إلى تغيير خططنا القتالية إذ زجت الجبهة بكل طاقاتها واستنفرت قواتها في الساحات والأقاليم للدفاع عن الثورة الفلسطينية وعن عروبة لبنان ووحدته، فتصدى مقاتلو الجبهة مع إخوانهم في فصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية للعدوان الصهيوني الغاشم، وسقط في معركة التصدي العديد من الشهداء أبرزهم القائد العسكري للجبهة الشهيد سعيد اليوسف.
فتنة الانشقاق
عند خروج الجزء الأكبر من قوات الثورة الفلسطينية من بيروت وتوزعها على الأقطار العربية، واجهت الثورة الفلسطينية أزمة من نوع آخر، تمثلت في محاولة تحميل منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها تحديداً مسؤولية خسارة لبنان، وهذا يجافي الحقيقة ويجانب الصواب ويصادر الأسئلة الصحيحة مما يعني اغتيال الإجابات الموضوعية التي يمكن أن تساهم في تقديم رؤية صائبة وتؤثر إيجابياً في الواقع العربي والفلسطيني وقد ترافق ذلك مع محاولة إثارة فتنة داخلية داخل فتح العمود الفقري للثورة الفلسطينية، بالنسبة لنا في جبهة التحرير الفلسطينية لقد أطلت هذه الفتنة برأسها ونحن منهمكين في عملية نقدية لتقييم التجربة الوطنية بكاملها وتقييم مستوى أداء الجبهة القتالي والسياسي ونضع اللبنات الأولى في عملية إعادة بناء الجبهة وفق الواقع الذي ترتب عن الخروج من لبنان، لذلك كنا نتألم ونحن نرى أن المقاتل الفلسطيني الذي صمد أمام آلة الدمار الصهيوني يتعرض للإهانة من خلال حملة دعائية مركزة توجت في نهاية المطاف بعمل انشقاقي واسع. فرأينا في ذلك محاولة لإجهاض الثورة الفلسطينية وللقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية بغض النظر عن الشعارات التي طرحت والتبريرات التي سيقت لتغطية ذلك، ومن موقع استشعارنا لخطورة هذه المحاولة الانقسامية حاولنا في جبهة التحرير الفلسطينية توظيف شبكة علاقاتنا الواسعة والاحترام الذي نتمتع به للعب دوراً توحيدياً لكننا لم ننجح بإيقافها فاضطرونا إلى أخذ موقف ينسجم مع منطلقاتنا الوطنية، فانحزنا للدفاع عن حق منظمة التحرير في الوجود.
تباين في المواقف
في الواقع تباينت المواقف داخل الجبهة، إذ أن هذا الموقف لم يكن سهلاً على الإطلاق فلم يستطع البعض تحمل ضغوطات جديدة وانتقالات جديدة وتشرد جديد، مفضلاً اتخاذ موقفاً محايداً لكن الجسم المركزي للجبهة انتقل إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية، مما أحدث خللاً محدوداً داخل صفوف الجبهة، كما أن الذين قادوا الفتنة تسللوا إلى داخل صفوف الجبهة من خلال بعض ضعاف النفوس لإثارة فتنة داخل الجبهة انتقاماً من موقفها السياسي فاستجاب جزء محدود من كوادر الجبهة لهذه الفتنة غير أن الجبهة بجسمها الرئيسي تمكنت من عزل هؤلاء وتعريتهم أمام جماهير شعبنا.
وقد دفعت الجبهة ثمن موقفها بأن اضطرت لنقل ثقلها السياسي وقيادتها إلى مواقع جغرافية جديدة، فانتقلت إلى تونس حيث كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
وهذا الواقع الجديد ولد مهمات أكثر صعوبة من الماضي، كان أبرزها التصدي لمحاولات إفشال مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية من خلال إفشال النصاب المطلوب لعقد مجلسها الوطني، فخاضت الجبهة إلى جانب المدافعين عن المنظمة هذه المعركة، مستجيبة لنداء الواجب الوطني بحضور الدورة السابعة عشرة للمجلس الذي عقد في عمان في 1984 وتحملت مسؤولياتها داخل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وعلى الصعيد التنظيمي تمكنت من إعادة بناء مؤسساتنا وتجاوز حالة الإرباك الذي أحدثه تباين المواقف وتمكنت من عقد المؤتمر العام السابع بحضور أكثر من 125 مندوب، يمثلون كافة الساحات والأقاليم والأقسام المركزية.
ترك هذا المؤتمر بصماته على تطور الجبهة اللاحق إذ خرج ببرنامج سياسي وبنظرة جديدة تماماً وأقر لوائح وأنظمة تنظيمية تراعي التوزيع الجغرافي الجديد بما يفعل وجود الجبهة بغض النظر عن أين تقع أقدامنا جغرافياً.
أكيلي لاورو
لقد أتاح المؤتمر العام السابع فرصة إعادة بناء الجبهة وتفعيل مؤسساتها فقررنا استئناف الاتجاه الاستراتيجي في قتالنا، كما حاولنا أن نثبت للعالم أن المسافات الجغرافية الواسعة التي تبعدنا عن أرض الوطن، لن تثني عزمنا عن الاشتباك مع العدو الصهيوني، وعلى هذه الأرضية خططت الجبهة للقيام بعملية عسكرية تتمثل في إنزال عسكري على ميناء أسدود "أشدود" عبر استخدام وسائل نقل تقليدية، وعلى ضوء عمليات استطلاع دقيقة تبين أن ثمة ثغرة في إجراءات الأمن الصهيونية تتمثل بالمجاميع السياحية التي تقوم برحلات منتظمة إلى الكيان الصهيوني، فوقع عليها الاختيار لنقل المقاتلين الذين سينفذون هذه المهمة.
في خضم عملية الإعداد لهذه العملية، قام طيران العدو الصهيوني بانتهاك حرمة تونس الشقيقة والإغارة على مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط فاخترنا ساعة الصفر لتنفيذ العملية بحيث تأتي رداً على هذه الغارة الوحشية، وبالفعل أعطينا الأوامر لمقاتلينا الذين تمكنوا بنجاح من التسلل إلى السفينة وتمرير أسلحتهم على ظهر السفينة.
وأثناء سير السفينة وتحديداً بعد مغادرتها ميناء بورسعيد في طريقها إلى ميناء أسدود، حدث خلل أمني اكتشف على أثره الرفاق من قبل أحد العاملين في السفينة مما أجبرهم على تحويل وجهة السفينة، من خلال اختطافها، أربكت عملية الاختطاف الجبهة كونها لم تكن ضمن المخطط أصلاً ولذلك عملوا بشكل حاسم وفوري لإنهاء العملية بأقل الخسائر الممكنة وتمكنوا من السيطرة على الوضع وإنهاء عملية الاختطاف بعد ثلاثة أيام من اختطافها.
وعادت السفينة بسلام إلى ميناء بورسعيد، وهناك عرفنا أنه تم قتل أحد ركاب السفينة، فقررت أن أصطحب المجموعة إلى تونس للوقوف على التفاصيل التي أدت إلى حدوث الخلل الأخير وعلى كل ما ترتب عليه، ومحاسبة المقصرين.
ولكن تعرضت الطائرة التي كانت تقلني وأفراد المجموعة إلى عملية قرصنة أميركية أجبرت خلالها على الهبوط في قاعدة تابعة لحلف الناتو في إيطاليا وقد اتخذت الإدارة الأميركية من مقتل أحد الركاب ذريعة لشن حملة شرسة ضد جبهة التحرير الفلسطينية مما أحدث تطورات دراماتيكية، كما سدت في وجه الجبهة بوابات كثيرة ومنها أن تعرضت لحصار قاسي بفعل سيادة المنطق الأميركي، حتى من قبل بعض الأنظمة العربية التي بدأت تضيّق على الجبهة.
الحصار
إن الحصار الذي تعرضت له الجبهة وضعها في مأزق سياسي وتنظيمي، فكان لا بد من إعادة النظر فوراً في أشكال العمل التنظيمي آخذين بعين الاعتبار ما تتعرض له الجبهة فصيغت مجموعة من الإجراءات والقوانين التنظيمية التي مكّنت الجبهة من الصمود في وجه الحصار وتجاوز آثاره فأعادت سياقات عملها السياسي والتنظيمي والجماهيري، ونجحت في إعادة رسم وضعها السياسي والتنظيمي في ساحات العمل الفلسطينية وكذلك في الأرض المحتلة، كما شاركت في قيادة أغلب المنظمات الشعبية الفلسطينية واتبعنا في تلك المرحلة قاعدة "إعلان أقل وفعل أكثر" من أجل إرساء دعائم العمل الجبهوي في ظل الحصار.
عملية القدس
مع اندلاع الانتفاضة المجيدة وما عناه ذلك من انتقال مركز الفعل الكفاحي الفلسطيني إلى داخل الأرض المحتلة رأت الجبهة أن أهم أشكال إسناد الانتفاضة يكون من خلال دعم الانتفاضة عسكرياً، وعدم عزل العمل الانتفاضي الجماهيري عن العمل العسكري، عبر تقاسم خلاق للأدوار والوظائف.
حيث رأينا أن تصعيد العمليات العسكرية واختراق حواجز الأمن الصهيوني بالإضافة إلى أنه سيربك جنود العدو، سيعطي زخماً للعمل الجماهيري، ويرفع من معنويات جماهيرنا المنتفضة، فرفعنا شعار "لينضم السلاح إلى الحجر" وترجمناه على الأرض بمجموعة من العمليات العسكرية وشبه العسكرية، حيث نفذنا أكثر من دورية عسكرية من خارج الحدود سواء من الأردن أو من لبنان وفي عام 87-88 قمنا بحملة واسعة لإشعال الحرائق في الجليل الأعلى وفي عام 1990 نجحت الجبهة في توجيه ضربة عسكرية سياسية واسعة ضد العدو الصهيوني، وذلك عبر إنزال 16 رفيق على شواطئ فلسطين بعدد من القوارب وجاءت هذه العملية بنتائج سياسية في غاية الأهمية ونعتبر أنها حققت أهدافها السياسية التي كان من ضمنها مواجهة الحوار الفلسطيني الأميركي الذي كنا نشعر بعدم جديته حيث كان شبيهاً بحوار الأطرش والأعمى.
من جديد فتحت هذه العملية العيون على جبهة التحرير الفلسطينية فقامت الإدارة الأميركية بنبش الماضي، خاصة وأنها اكتشفت أنه من الخطط الثانوية لعملية القدس استهداف بعض الأهداف الأميركية في تل أبيب، فصعّدت من مواقفها العدوانية وشددت الحصار على جبهة التحرير الفلسطينية في محاولة لتوجيه ضربة قاسية لها.
حصار مزدوج
إن تحالفات الجبهة الرئيسية كانت ولا زالت مع القوى العربية التقدمية، وجاءت نتائج حرب الخليج الثانية المعروفة لترمي بثقلها على الحالة العربية والحالة الفلسطينية وعلى جبهة التحرير الفلسطينية خصوصاً بحكم تحالفات الجبهة، فقد شدد الحصار على الجبهة، ومما زاد في صعوبة وضع الجبهة أن معظم حلفائها بعد أزمة الخليج الثانية تعرضوا لمشاكل، فتعرض العراق للحصار وفرض حظر على ليبيا، وعانى اليمن ويلات جديدة، وعاشت الجزائر أياماً عصيبة وكل هذه الدول تربطها بالجبهة علاقات متميزة وتعتبر حليفة رئيسية للجبهة، فحوصرت الجبهة حصاراً مزدوجاً، حصار يطا لها أصلاً وحصار يطال الدول الحليفة لها. وأمام هذا الوضع ارتأينا أن نعطي فرصة للرفاق الذين بإمكانهم التحرك بمرونة أكثر كونهم خارج دائرة الحصار لقيادة مهمات الجبهة التقليدية، وعلى أرضية هذا الوضع قدمت استقالتي من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورشح الرفيق علي إسحق لعضوية اللجنة التنفيذية كخطوة لإفساح المجال للعمل بمرونة أكثر، وبنفس الوقت أعدنا ترتيب الوضع التنظيمي بصيغة تنسجم مع الظروف الصعبة التي بدأنا نعيشها وخاصة على الصعيد السياسي والإداري.
إعادة البناء
في الواقع عشية أوسلو، بلغت الضغوطات على الجبهة ذروتها وطالت معظم مفاصل وركائز الجبهة.
فعمما سبب في تراجع نشاطها كما بدأت بعض مفاصل التنظيم التاريخية تشعر بالتعب، حيث أصبح الثمن الذي تدفعه الجبهة نتيجة تبني خطها غال جداً وهو ما أدى إلى خروج بعض رفاقنا تحت شعارات معينة متخذين مبررات وذرائع مختلفة بعضها سياسي وآخر تنظيمي وبعضها مباشر للبحث عن حل ذاتي خاص بها، مما أحدث تفككاً في بعض الحالات التنظيمية، ومن جهتنا حاولنا جاهدين عبر المؤسسات ومن خلال المناقشات أن نحافظ على ما يمكن الحفاظ عليه في الحياة التنظيمية والسياسية.
جاءت اتفاقيات أوسلو، وكان وضع الجبهة منهك فرأى البعض في هذه الاتفاقيات فرصة لالتقاط الأنفاس، فقبل بها، غير أن الجبهة بجسمها المركزي وبقيادتها لم تخرج عن موقفها السياسي التقليدي فقررت رفض الاتفاقات والاستمرار في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وفي لجنتها التنفيذية ورأينا في هذا الموقف أكثر حكمة من الرفض والخروج عن إطار المنظمة أو الاندفاع وراء سياسات لا تمثل حقيقة موقف الجبهة ولا تاريخها، وصغنا معادلة متكاملة بين الالتزام بمنظمة التحرير الفلسطينية والبقاء داخلها وبين رفض أوسلو ولم يكن ذلك سهلاً على الإطلاق وبموازاة ذلك، فتحت الجبهة حوارات في داخلها، ومع القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية مكّنها من نحت خط سياسي يحافظ على خياراتها السياسية، على هذه الأرضية أعطيت التعليمات لعدد من كوادرها الرئيسية بالدخول إلى فلسطين، ونجحنا في إعادة بضع مئات من رفاقنا إلى مناطق الحكم الذاتي، وتمكنا من ضخ أكبر عدد من كادرنا لخوض تجربة العمل النضالي بين صفوف شعبنا في ظروفه الجديدة، غير أن مشكلة موضوعية واجهتنا تمثلت بعدم إمكانية عقد اجتماعات منتظمة للجنة المركزية وللمكتب السياسي والهيئات الأخرى، وانشغال بعض الرفاق الذين ألحقوا في الداخل بأمور عديدة، بعضها يتعلق بالعمل الوظائفي الجديد وبعضها في الظروف السياسية الجديدة مما فاقم الأزمة وزاد في إرباك الحياة التنظيمية، الأمر الذي استدعى مني اتخاذ خطوة سياسية جريئة فقررت استثمار انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، ودخلت أرض الوطن كعضو في المجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما أتاح لي فرصة القراءة الميدانية للوضع السياسي والتنظيمي ووفر أرضية صالحة لإعادة بناء جبهة التحرير الفلسطينية في واقع جديد وفي مرحلة جديدة، وقد قطعنا شوطاً لا بأس به على هذا الصعيد.
إن ذلك لم يكن على حساب وضع الجبهة في الساحات العربية الأخرى وخاصة في دول الطوق، منطلقين من إيماننا بأن قضية شعبنا تستدعي وجود جبهة التحرير الفلسطينية في كل مناطق تواجد شعبنا، وفي كل أطر منظمة التحرير الفلسطينية وداخل مفصائل السلطة الوطنية الفلسطينية بالحدود التي ترى أنها لا تتعارض مع منطلقاتها ومبادئها، رغم تقديم الرفيق علي إسحق استقالته من صفوف الجبهة .
ونحن الآن بصدد الإعداد لأوراق عمل سياسية وتنظيمية تستنبط من البرنامج السياسي والتنظيمي العام، وتأخذ بعين الاعتبار الواقع الموضوعي المعاش وتحاول الموائمة بين برنامج الجبهة السياسي المركزي وبين ما هو ممكن سياسياً في ظروف الوطن وفي ظل ظروف العلاقات داخل الساحة الفلسطينية.
انتفاضة الأقصى
هناك عوامل مجتمعة أدت إلى اندلاع انتفاضة الأقصى، منها زيارة الإرهابي شارون للمسجد الأقصى ولكن ليس هذه الزيارة كل شيء، فهناك أسباب كثيرة منها الممارسات التعسفية والإجرامية بحق الشعب الفلسطيني وهدم البيوت والاستيلاء على الأرض وحصار الشعب إضافة إلى سياسة القتل والمجازر والاعتقال، كلها كانت من أسباب اندلاع الانتفاضة.
حققت الانتفاضة الوحدة الوطنية الميدانية وذلك من خلال مشاركة جميع القوى الوطنية والإسلامية في إطار لجنة المتابعة العليا وكذلك مشاركة الجميع في المسيرات المشتركة وجنازات الشهداء ومواساة الجرحى والتصدي للإحتلال، فالكل أصبح مشاركاً وهذا يعود لفعل الانتفاضة ونحن تواقون إلى الأفضل وذلك من خلال قيام وحدة عسكرية بين فصائل المقاومة حتى تكون الانتفاضة فعل جماهيري وعسكري بمواجهة العدو الصهيوني، وندعو إلى رؤية استراتيجية سياسية ملموسة وبالتالي فإن وضع هذه الرؤية سيؤدي إلى تعزيز دور الانتفاضة والمقاومة في التصدي للإحتلال الصهيوني وقطعان مستوطنيه على أرض فلسطين، وسيؤدي حتماً إلى تحقيق ما انطلقت من أجله الانتفاضة.
موقع جبهة التحرير الفلسطينية في الانتفاضة
حين اندلعت الانتفاضة في 28/9/2000 عكفت الجبهة على دراسة الوضع وأخذ الإجراءات والقرارات الكفيلة بالمشاركة الفعلية في الانتفاضة على الصعيد الجماهيري وعملت على استنباط أساليب للدعم العسكري لشعبنا داخل الوطن المحتل وذلك من خلال تدريب مناضلينا، وأمام هذا الدور الذي اضطلعت به جبهة التحرير الفلسطينية قامت الجبهة بتنفيذ العديد من العمليات البطولية والجريئة ضد العدو الصهيوني في حيفا وبيت جالا ورام الله والقدس الاستشهادية وغيرها من العمليات وقدمت خيرة من كوادرها ومناضليها شهداء ومنهم الشهيد عبد الناصر حديب أحد قادة الجناح العسكري للجبهة في الخليل الذي اغتالته قوات العدو وبشّعت بجثته.
وأمام ما تقدم ألا وهو لمحة سريعة عن دور جبهة التحرير الفلسطينية في الانتفاضة وهي تستنبط أساليب كفاحية تتماشى وطبيعة الظروف التي تفرضها ساحة المواجهة فنحن نقول أن الأيام القادمة ستكشف عن أساليب نضالية وكفاحية تثأر لدماء شهداء الانتفاضة في غزة هاشم والقدس والضفة وعلى امتداد أرض فلسطين وتؤكد بأننا سنثأر لدماء الشهداء القادة الذين تعرضوا للاغتيال من قبل حكومة الإرهابي شارون كما نؤكد أيضاً بأن الدم سيُنبِت مناضلين أشداء يسعون لتحرير فلسطين.
الأسرى والمعتقلين
كل التحية وكل التقدير للأسرى البواسل الذين يواجهون الجلاد الصهيوني من داخل الزنازين ويؤكدون على مواصلة النضال وألف تحية للمناضل الشجاع القائد "سمير القنطار" بطل عملية نهاريا – عملية الشهيد القائد "جمال عبد الناصر"، هذا المناضل العربي اللبناني الفلسطيني الذي تربى على حب القضية القومية فلسطين ومن أجلها أُسِر ليؤكد للعالم أن ما أُخِذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، فلسمير من رفاقه وجبهته التي انتمى إليها منذ طفولته كل الاعتزاز والتقدير لمواقفه الوطنية والقومية خاصة بعد أن قاد الحركة الأسيرة في المعتقل فأصبح بجدارة عميد الأسرى العرب مؤكدين له أن الفرج قادم والحرية قادمة والاحتلال إلى زوال.
جبهة التحرير الفلسطينية انطلقت عام 1959 وأعلنت حضورها في السابع والعشرين من نيسان عام 1961، وهو اليوم الذي شهد العودة للإسم القديم للجبهة، وذلك حتى لا يحدث أي لبس بين هذا اليوم وبين تأسيس الجبهة، حيث أن الجبهة أسست قبل هذا التاريخ بزمن طويل، وتحديداً منذ بداية عام 1961 على يد مجموعة من الشباب الفلسطيني المتحمس في مخيمات اللجوء، حيث اتفقوا على تأسيس تنظيم فلسطيني يحمل اسم جبهة التحرير الفلسطينية يعتمد الكفاح المسلح طريقاً وحيداً لمواجهة العدو الصهيوني وتحرير فلسطين من خلال تحشيد طاقات الشعب الفلسطيني والمساهمة الجادة في معركة تحرير فلسطين باعتبار أن الفلسطيني يجب أن يكون بالضرورة السبّاق نحو الفعل الوطني بدعم وإسناد واسع من الجماهير العربية وقوى التحرر الوطنية والعالمية.
وقد مرّت الجبهة بتجربة سياسية تنظيمية واسعة، وشهدت تجارب توحيدية وأخرى انقسامية – إن جاز التعبير – حيث كان السابع والعشرين من نيسان واحداً من المحطات المصيرية في تطور الجبهة التي مثلت جزءاً من تاريخ شعبنا الفلسطيني وتاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، وإحدى أهم محطاتها المصيرية.
البدايات
إن فشل التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا، كان من أهم الأسباب التي سرّعت بولادة الجبهة، حيث أن التجربة الوحدوية العربية الأولى في ذلك التاريخ منحت الوجدان الشعبي العربي والفلسطيني طاقات خلاقة وآمال كبرى للعمل على تحقيق أحلام شعبنا العربي عموماً وحلم الشعب الفلسطيني في العودة إلى فلسطين خصوصاً. وتم الرهان الواسع على إمكانية أن تتحقق هذه الوحدة مع بدايات جدية للعمل العربي، وكان الفلسطينيون أكثر الشعوب العربية تأييداً لهذه الوحدة وساهموا في جميع مناطق تواجدهم مساهمة فعالة في العمل على مساندتها ودعمها بهدف إنجاحها باعتبارها طريق تحرير فلسطين ولكن لم يقدر لهذه التجربة أن تستمر، فقد سقطت قبل أن تتكامل بناها الرئيسية وبفعل الكثير من الأمور التي لسنا بصدد ذكرها الآن.
إن فشل هذه التجربة أدى إلى انكسار بنية الحلم الكبير الذي كان يرى فيه الشعب طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين، ومن هنا كان تأسيس الجبهة رداً مباشراً على هذا الانكسار، حيث شهدت التجمعات الفلسطينية نقاشات مكثفة للجواب على السؤال الاستراتيجي الدائم، ما العمل؟ وجاءت إجابات البعض عملية وهي بأن يبني الفلسطينيون النواة الرئيسية للفعل الثوري وبالتالي تبني مفهوم حرب الشعب طويلة المدى خياراً وحيداً. وقد أغنت هذه الحوارات تجارب ثورية معاصرة أبرزها التجربتين الجزائرية والكوبية، حيث قدمت هاتان التجربتان نموذجاً كيف حملت شعوب العالم على عاتقها مهمة التحرر من خلال زج طاقات الجماهير الخلاقة ولكنها تمكنت من الانتصار.
علاقة الوطني بالقومي
إن الانفصال بين سوريا ومصر سرّع بولادة الجبهة، وأن ولادتها مثلت رد فعل ثوري عليه، فكانت التجربة الجبهوية تكريساً لما هو قومي بدءاً من الوطني ومن خلال التجربة ازدادت قناعتنا أنه كل ما تعززت إنجازاتنا الوطنية وكلما نجحنا بتوحيد جهدنا الوطني كلما نجحنا أكثر في التأثير الإيجابي على المدى القومي، ولكننا في ذات الوقت كنّا ندرك أن المفهوم القومي، هو المفهوم الجماهيري الواسع وليس المفهوم الرسمي السائد، والتي كانت الجبهة في جانب من جوانبهاً رداً على سلبيته، ولم يتزعزع إيماننا بقدرات أمتنا العربية وكون فلسطين جزء لا يتجزأ من الوطن العربي والشعب الفلسطيني جزء من أمته العربية، وأن على الشعب الفلسطيني أن يكون الطليعة الكفاحية للأمة العربية من أجل حل القضية الفلسطينية وإسنادها، ومن هنا نرى أن انطلاقة الجبهة كانت تعزيزاً للمفهوم القومي ومحاولة رائدة للصهر بين ما هو وطني وما هو قومي.
تجربة وحدوية لم ترى النور
المرحلة التي شهدت تأسيس الجبهة، كانت تعيش حراكاً فلسطينياً إذ شهدت تشكيل العديد من المجموعات الفلسطينية منها مَن كُتِبَ له الاستمرار ومنها مَن ذاب أو توحد مع مجموعات أخرى..
بالفعل كان هناك العديد من المجموعات في طور التأسيس. ولعب التوزع الجغرافي لشعبنا دوراً إلى حد كبير وكذلك سرية العمل في تلك المرحلة دوراً مهماً في عدم توحيد صفوفها. فعلى سبيل المثال إن تجربة فتح أسبق من تجربة الجبهة، ولكن كان هناك فارق جغرافي فبينما نمت فتح وترعرعت بين قطاع غزة ودول الخليج. فإن جبهة التحرير الفلسطينية نمت وترعرعت في سوريا ومن ثم في الأردن، ولم تكن هناك أي صلات بين التجربتين أو بين مجموعة التجارب الموازية.
وكانت الجبهة تستشعر وجود نواة لفعل فلسطيني مؤثر في مناطق أخرى لذلك اقتضت الظروف أن تعمل بسرية مطلقة وباستقلالية واسعة، مما قلص من فرصة التواصل إلا عبر بعض النشرات الإعلامية التي كانت تصدر هنا وهناك. وعندما أعلنت فتح عن ولادتها بشكل رسمي في الفاتح من يناير (1965). كانت الجبهة قد قطعت شوطاً لا بأس به على طريق الإعداد والتدريب ولكن كوادر الجبهة الدنيا ضغطت على قيادة الجبهة في ذلك الوقت من أجل التوصل مع هذا التنظيم الذي ينطلق من أرضية قناعتنا ويتبنى نفس البرنامج والأهداف، ويعتمد نفس الأسلوب إلى الوحدة. وفعلاً نتيجة لضغط الكادر الجبهوي عقدت قيادة الجبهة عدة لقاءات مع قيادة فتح وتم التوصل إلى اتفاق أولي لوحدة التنظيمين فشكلت نواة لقيادة موحدة، ولكن لم يقدر لهذه التجربة أن ترى النور وذلك بسبب التدخلات العربية التي بدأت تلتفت أكثر إلى العمل الفلسطيني حيث بدأت بعض الأنظمة العربية تحاول التأثير على اتجاهات بعض القوى الموجودة. كما بدأت تظهر بعض التعارضات هنا وهناك والنتيجة أن هذه اللجنة لم تنجح بصياغة البرنامج المشترك وبناء الوحدة الموعودة، واستمرت الجبهة بالعمل بشكل مستقل عن فتح وتمكنت من تكريس هويتها النضالية والسياسية ومارست الكفاح المسلح جنباً إلى جنب مع قوات العاصفة وذلك عبر جهازها العسكري المستقل.
عملية ديشوم
أول عملية عسكرية معلنة كانت في بداية عام 1967 في قرية "ديشوم" شمال فلسطين وقد تم الإعلان عنها بسبب أنه سقط فيها أول شهيد للجبهة وهو الشهيد خالد الأمين.
فقبل هذا التاريخ كان هناك بضع عمليات لم تعلن عنها بسبب ظروف العمل السري التي لم تكن تسمح بالإعلان. وقد استخدمت بها أسلحة بسيطة فالأسلحة التي كانت متوفرة بين أيدينا في تلك المرحلة، كنا نحصل عليها بشق الأنفس وهي بشكل أساسي مقتصرة على الألغام والمتفجرات، أما الأسلحة الأخرى فحصلنا عليها من السوق المحلي ويعود تاريخها إلى الأربعينات.
هزيمة الـ67
لبّت الجبهة نداء الواجب في حرب الـ67 واستنفرت كوادرها وأظهرتتهم للعلن باعتبار أن المعركة هي الحاسمة فكانت الفرصة الأولى التي يتعرف فيها أعضاء الجبهة على قيادتها وان تشخص الحالة في شكلها العلني.
وفي العمل الميداني خلال الحرب، نجحت الجبهة في إيجاد موقع قام بزج كتلة من كادراتها المدربة باتجاه الجولان، حيث أخذ بضعة عشرات من رفاقنا مواقعاً لهم في أرض المعركة، لكن لم يقدر لهذه التجربة الاشتباك مع العدو حيث أن ظروف المعركة لم تمنح الناس فرصة للقتال، وعقب الحرب مباشرة، اخترقت مجاميع من رفاقنا المدربين خطوط العدو لجمع الأسلحة المتبقية في أرض المعركة وتمكنت من جمع كمية كبيرة من الأسلحة والأعتدة، وهذه الأسلحة بدورها مثلت أسلحتنا الأساسية في تجربتنا القتالية اللاحقة.
وعلى صعيد آخر إن نتائج حرب الـ67 المعروفة للجميع برهنت على صحة توجهات الفصائل الوطنية الفلسطينية ومنحها فرصة أكبر للتواجد على الأرض بشكل فعال، لتؤسس بنفسها لمرحلة جديدة من مراحل العمل الثوري. وهي المرحلة الممتدة من عام 67 إلى عام 70.
ولادة الجبهة الشعبية
قبيل حرب حزيران بدأت تظهر على الساحة الفلسطينية العديد من التنظيمات، أبرزها الذي أُطلق عليه "شباب الثأر" وتنظيم "أبطال العودة"، وكذلك تنظيم آخر أقل شأناً اسمه "منظمة فلسطين العربية".
وسرعان ما تم الحوار بين منظمة فلسطين العربية وجبهة التحرير الفلسطينية أسفر عن اندماج بينهما وانضم إليهما شباب الثأر وأبطال العودة بوحدة اندماجية عسكرية وأطلق عليها اسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
ولكن هذه الوحدة لم تدم طويلاً حيث أنها لم تصمد سوى أشهر قليلة وذلك لأنها تمت بوقت قصير إذ أن هذه القوى أرادت أن ترد على هزيمة الـ67 بإعلان وحدتها دون أن يتم الاتفاق على الكثير من الأمور الجوهرية، وهذا ما عكس بشدة على التجربة الوليدة، إذ سرعان ما بدأت ترتسم على أرض الواقع ظلالاً من الشك والاختلاف بسبب الفوارق الجوهرية التي يمتلكها كل فصيل على حدى.
إلا أن حركة القوميين العرب كانت مؤسسة قومية واسعة ومؤثرة تماماً و لها علاقاتها الدولية والقومية، و لها رؤيتها وبرنامجها الاستراتيجي، بينما تجربة جبهة التحرير الفلسطينية السياسية والفكرية لم تكن قد نضجت بعد.. هذا إلى جانب أن الظرف العربي لم يكن ليساعد على تجسيد وتكامل هذه الوحدة. فسرعان ما انفك عقدها بأن أعلنت جبهة التحرير الفلسطينية فك ارتباطها بالتجربة. وقد ميزت جبهة التحرير الفلسطينية نفسها بإسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة" وهو الإسم الذي كان يطلق على القيادة العسكرية للجبهة الشعبية، والتي كانت في معظمها من جبهة التحرير الفلسطينية، أما القسم الثاني فحمل اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "المكتب السياسي" حيث كان المكتب السياسي في معظمه من رفاقنا في حركة القوميين العرب.
ومما يسجل لهذه التجربة الوحدوية أنها وبالرغم من قصر عمرها الزمني إلا أنها حققت قفزة مهمة في العمل العسكري ضد العدو الصهيوني.
الكرامة
مثلت معركة الكرامة مفصلاً هاماً في تاريخ الثورة الفلسطينية، ترك بصماته على تطورها اللاحق وكانت الجبهة موجودة في قلب الحدث إلى جانب مقاتلي فتح وقوات التحرير الشعبية والجيش الأردني الذين تصدوا للهجوم الصهيوني الغادر.
إن بسالة التصدي لمقاتلي الثورة الفلسطينية ومجموعات من الجيش الأردني أدت إلى إلحاق ضربات مؤذية بالقوات الصهيونية الغازية، كانت بمثابة رد ثوري على هزيمة حزيران، مما أعاد الاعتبار للإنسان العربي والإنسان الفلسطيني وعزز الثقة بالإمكانات الذاتية، وأضاف زخماً آخراً للكفاح المسلح الفلسطيني على كافة المستويات.
وبإمكاننا أن نسجل أن معركة الكرامة كانت مفصلاً ما بين تاريخين، ما قبل الكرامة وما بعد الكرامة، فما بعد الكرامة تم تأسيس جديد لواقع قتالي آخر اختلف اختلافاً كلياً عن الواقع الذي ساد، ووجود الثورة الفلسطينية في الأردن الذي كان سرياً ولم يكن قد امتلك ما يكفي من القوة لفرض وجوده تحول ما بعد الكرامة إلى وجود علني يستند إلى الشرعية النضالية التي مثلها، كما حدثت نقلة نوعية في المؤسسة الفلسطينية المقاتلة، تم التعبير عنها بتصعيد العمل العسكري ضد العدو الصهيوني. ومن نتائج معركة الكرامة أيضاً، التحولات التي طرأت على بنية منظمة التحرير الفلسطينية والتي تمثلت باستلام فصائل الكفاح المسلح لزمام الأمور فيها، فتحولت المنظمة من حالة بيروقراطية سياسية معنوية إلى حالة الفعل المباشر يقودها أصحاب فكرة الكفاح المسلح، حيث تم اختيار الأخ أبو عمار رئيساً للمنظمة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن "أيلول" لم يكن نتيجة التعارضات التي ميزت العلاقة بين النظام الأردني والثورة الفلسطينية فحسب، بل ساهم فيه القرار العالمي والمشروع الأميركي، الذي اصطدم بالرفض الفلسطيني الواسع لمشروع روجرز، والذي بدأ يستشعر الخطر من تطور الثورة الفلسطينية التي بدأت تستأثر الاهتمام الشعبي العربي الواسع، وتؤثر فعلاً في الوضع العربي، إلى جانب أن الثورة الفلسطينية بدأت تستأثر باهتمام الثورة العالمية، وتنسج شبكة واسعة من العلاقات مع هذه القوى، فكانت ترى في الأردن كافة ألوان الطيف من فصائل الثورة العربية وقوى الثورة العالمية ولهذا نرى أن الأردن كان – في تلك الفترة – مرجل ومصنع ينتج الثورة، وهكذا بدأت قوى الثورة المضادة تحشد قواها لضرب هذه الظاهرة، حتى تم الحد من تطورها ومن تأثيرها على الأنظمة العربية، ويلحق ضرراً في المشروع الأميركي في المنطقة.
ومن أهم التغيرات التي حدثت في عام 1970 استشهاد رمز القومية العربية الزعيم جمال عبد الناصر، وقد كان لغيابه آثاراً في غاية الخطورة وكذلك تغيير بنية النظام في سوريا بحيث أصبح أكثر استعداداً للتعاطي مع مشروعات التسوية في المنطقة.
وهكذا، فإن عام السعبين يعتبر مفصلاً هاماً، إذ اتخذ الوضع العربي بما فيه الوضع الفلسطيني اتجاهات جديدة ما زالت تؤثر في المسار الفلسطيني والعربي حتى الآن.
تطور الفكر السياسي
قبيل أيلول بدأت تهب على الجبهة رياح التغيير الفكري والسياسي، إذ تأثرت إلى حد بعيد بوحدتها مع حركة القوميين العرب، وتأثرت بما لمسته على الساحة الأردنية من ممارسات على الأرض واغتنت بالأفكار التقدمية والقومية، وأصبحت هذه المسائل تتفاعل داخل الجبهة التي بدأت تبحث لها عن دور سياسي أوسع وعن هوية فكرية ترسم معالمها، فأثارت داخل الجبهة نوعاً من الحوار الجدي بين أصولية وطنية متزمتة وبين قوى وطنية ديمقراطية منفتحة، وقد شهد المؤتمر العام الثاني للجبهة إرهاصات هذا الجدل إذ سمعت فيه آراء وأفكار مختلفة حول بنية التنظيم وهويته السياسية.
وبعد أيلول، كانت هذه الأسئلة أكثر إلحاحاً، إضافة إلى أسئلة من نوع، ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وهل كان بالإمكان تفادي ما حدث؟ ومَن هو المسؤول؟ وكذلك أسئلة داخلية حول الكفاءة في الأداء وحول دور الأفراد، والكثير من هذه الأسئلة، وكما هو معروف فإن الهزائم تولد الكثير من هذه الأمور.
وكان المؤتمر العام الثالث الذي عقد بعيد أيلول الساحة التي طرحت فيها هذه الأسئلة بعمق، غير أن المؤتمر لم ينجح في إحداث تغييرات جوهرية واكتفى بأن منح قيادة الجبهة التاريخية الفرصة لإعادة البناء من جديد، بينما ظلت قضايا الخلاف الفكرية والسياسية عالقة، لتلقي بظلالها على المؤتمر العام الرابع.
مثّل المؤتمر العام الرابع مفصلاً مهماً في تاريخ الجبهة، فقد تمكن من الخروج بالبرنامج السياسي والنظام الداخلي بوضوح فلم يعد الميثاق وحده هو الذي يحكم علاقاتنا الداخلية، ولم تعد القيادة التاريخية وحدها هي التي تقرر، ودخل البنية التنظيمية قيادة وكوادر جديدة انتخبت من القاعدة إلى القمة بشكل ديمقراطي تماماً، وهو ما مهّد الطريق لانفتاح الجبهة الشعبية "القيادة العامة" على ساحة العمل السياسي وعلى ساحة الفعل النضالي بأشكاله المختلفة.
كما وأسس المؤتمر العام الرابع لتطور مهم في الأداء السياسي والجماهيري وأرسى دعائم كبرى لمستقبل الجبهة، التي على أساسها تم تشكيل مجموعة من الهيئات والمؤسسات التنظيمية مكّنها من الفعل الإيجابي على أكثر من صعيد وعلى أكثر من مستوى.
حرب تشرين
بعد المؤتمر الرابع الذي عقد بين آذار ونيسان 72، اندلعت حرب تشرين وكانت الجبهة قد أعادت بناء نفسها على الأرض بشكل جيد، ونجحت الجبهة في القيام بدور إيجابي عبر الجبهتين اللبنانية والسورية، فقد تمكنت دوريات الجبهة على الساحة اللبنانية من العبور إلى الأراضي المحتلة والاشتباك مع قوات العدو الصهيوني والقيام بواجباتها الموكلة، أما على الجبهة السورية فقد قامت الجبهة وبالتنسيق مع الجيش السوري بالمهام التي تنسجم مع طبيعتها القتالية.
ونحن نعتبر حرب تشرين من الحروب المشرفة في التاريخ العسكري، بغض النظر عن مساحات وتكتيك الفعل العسكري الذي تم خلالها، فقد مثلت صفحة مشرفة جداً في التاريخ العربي وفي السجل القتالي للجندي العربي ولتكتيك العمل.
هذا النمو أفرز متغيرات مهمة جداً، وبدأت تظهر تعارضات وتناقضات بين الثورة الفلسطينية بأذرعها السياسية والعسكرية وبين بعض الأنظمة العربية، وأبرزها تلك التي سادت بين الثورة الفلسطينية من جهة والنظام الأردني من جهة أخرى والتي أدت بنهاية المطاف إلى أحداث أيلول التي أصبحت نتائجها معروفة.
إلاّ أن الرئيس السادات فاجأ العالم.. وصدم الشعوب العربية عندما طرح وخلال ذروة الفعل العسكري العربي مقولته (99% من الحل بيد أميركا) بما يعنيه ذلك من تغيير في التحالفات الإقليمية الدولية والاستعداد لعقد تسوية مع العدو الصهيوني، ثم ما حدث من فصل القوات على الجبهة المصرية والسورية واجتماعات بين المصريين والعسكريين. كل ذلك طرح معطيات جديدة أبرزها أنه للمرة الأولى في التاريخ العربي المعاصر يظهر للسطح استعداداً لعقد صفقة سياسية مع الصهاينة تقر بوجود الكيان الصهيوني، وتبحث عن بعض الحلول للحقوق العربية وبالطبع لم تنسجم هذه الأفكار والأطروحات مع رؤيتنا وأفكارنا السياسية، فرفضت من قبلنا بشدة كما رفضت من معظم القوى الفلسطينية باستثناءات محدودة لبعض القوى التي ارتأت أن الفرصة ملائمة للحديث حول بعض الإنجازات الوطنية، وارتسمت صورة جديدة من صور التحالف السياسي داخل الساحة الفلسطينية عبّر عنه بموقفين رئيسيين، موقف ينادي باستثمار ما يجري من أجل بناء سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من الأرض الفلسطينية، يندحر عنه الاحتلال، وموقف يقول أن موازين القوى السائدة في هذه المرحلة لا تسمح بذلك، مما يستدعي تشديد النضال لتحقيق الأهداف وتغيير موازين القوى القائمة، وقد عبّر الموقف الثاني عن نفسه بتشكيل "جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلامية" شاركت فيها إلى جانب الجبهة الشعبية "القيادة العامة" الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وجبهة التحرير العربية، أما الموقف الأول فكان عنوانه فتح والجبهة الديمقراطية والصاعقة، وهكذا ظهر على الساحة الفلسطينية، ولأول مرة صراعات سياسية حول محاور ائتلافية، وكل محور يسعى إلى التشييع لرؤيته وفكره، ولكن ما يسجل لهذه التجربة أن التشييع للفكر السياسي تمثل بنفس الأدوات إذ حاولت جبهة الرفض تطوير أدائها ضد العدو الصهيوني لتحقيق شعارها، ونفس الشيء سعت إليه القوى التي نادت بالسلطة إذ شيعت لفكرها السياسي من خلال تصعيد الاشتباك مع العدو الصهيوني مما يمكننا القول أن هذه الخلاف انعكس بشكل إيجابي على الساحة الفلسطينية إذ وكان محفزاً لتطوير الأداء التالي الفلسطيني.
عملية الخالصة "كريات شمونة"
بعد الاستعداد العربي لعقد صفقة سياسية مع العدو الصهيوني، بدأت الثورة الفلسطينية تتعرض لمضايقات عربية وأصبح من الضروري القيام بعمل عسكري يعطي الزخم المعنوي لجماهير شعبنا ويعبر عن الإصرار الفلسطيني لاسترجاع حقوقنا المشروعة، فكانت عملية الخالصة، وهي باكورة مدرسة قتال بخط جديد أسس لها وعمل على تأسيسها بعد المؤتمر الرابع وتم اختيار الكادرات والمدربين والمقاتلين الذين بإمكانهم تحقيق هذه الفكرة، وفي الخالصة تم اختيار الهدف بعناية ودقة وصدرت أوامر قتال بما يخدم الهدف السياسي الذي ستنفذ من أجله هذه العملية، ونجحت المجموعة في اختراق الحدود، واختراق أجهزة الأمن الإسرائيلي، وحسب الخطة المقررة نجحت في الاشتباك مع العدو فتم احتجاز رهائن، وحسب الخطة أنهيت العملية وكانت خسائر الجبهة ثلاثة شهداء، هم مجموع أفراد العملية، أما خسائر العدو فكانت بالعشرات وقد اعترف العدو بـ28 قتيلاً وعشرات الجرحى وبذلك تعتبر "الخالصة" من أنجح وأبرز العمليات القتالية في تاريخ العمل الفلسطيني حتى يومنا هذا.
شرارة الحرب اللبنانية
عودة للخلف قليلاً، وبالتحديد عندما خرجت الثورة الفلسطينية من الأردن، حيث بدأت تبحث عن موطئ قدم يتيح لها التماس مع العدو. ووجدت أمامها الساحتين السورية واللبنانية، ونتيجة لعدة عوامل، وضعت الثورة ثقلها الأساسي في لبنان ومن أهم هذه العوامل طبيعة الحدود اللبنانية مع شمال فلسطين، حيث التسلل منها اسهل بكثير من التسلل عبر الجولان، مما سهّل وجود خميرة ثورية تتمثل بالواقع الفلسطني في لبنان الذي كان يعاني من إجراءات المكتب الثاني القمعية، هذا إلى جانب وجود حركة وطنية لبنانية قوية ومتميزة، كل هذه العوامل سمحت للثورة الفلسطينية أن تنظم وضعها في لبنان.
في أجواء الغليان الاجتماعي والسياسي في لبنان وبعد استشهاد النائب معروف سعد نصبت مجموعة من حزب الكتائب كميناً عسكرياً لباص يقل مدنيين فلسطينيين كانوا قد انتهوا من المشاركة بمهرجان واسع لجبهة الرفض في الذكرى السنوية الأولى لعملية الخالصة، وأطلق الكمين النيران على المواطنين الفلسطينيين في طريقهم إلى تل الزعتر مروراً من عين الرمانة فكانت الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية في لبنان.
الولادة الثانية
تكثفت الأحداث وتسارعت وتيرتها، فالحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع قوات الثورة الفلسطينية واستشعاراً منها بالخطر الذي يمثله المحور الآخر – محور الجبهة اللبنانية – على عروبة لبنان ووحدته وعلى مشروعها الديمقراطي زجت بكل طاقاتها من أجل تحقيق مكاسب على الأرض تخدم برنامجها وتعزز وجودها، وفي المقابل تمادى المحور الآخر في مشروعه الانعزالي.
واتخذ الصراع أشكالاً عنيفة جداً تمثل في إحدى حلقاته بعزل المخيمات الموجودة داخل العمق الكتائبي، مثل مخيمي تل الزعتر وضبية، وحوصرت بالكامل، وتعرضت لهجوم وحشي ولمجازر فظيعة انتهت بترحيل سكان المخيمين.
في خضم هذه الأحداث كان ما يهمنا هو حماية شعبنا وثورتنا، والدفاع عن المخيمات، واستمرار تصادمنا مع العدو الصهيوني في جنوب لبنان.
هذا الواقع عكس نفسه على الأزمة التنظيمية والسياسية داخل الجبهة الشعبية "القيادة العامة".
من جانبنا سعينا بكل طاقاتنا لإخضاع هذه الخلافات لأطر الجبهة والاحتكام للنظام الداخلي والعقل والمنطق حتى نستطيع الخروج منها بأقل الخسائر.
أمام هذا الوضع والذي استمر لأشهر طويلة، تم التوصل إلى النتيجة المنطقية الوحيدة، وهي أن يعلن الطرف الموجود معنا والذي يمثل غالبية قواعد وكوادر الجبهة، تمايزه من خلال العودة إلى الأصول الرئيسية، وإلى إسم جبهة التحرير الفلسطينية، العنوان الذي ناضل مناضلونا الأوائل تحت رايته، وكان ذلك يوم 27 نيسان 1977، فاعتبر هذا اليوم، اليوم الوطني للجبهة.
وعلى الفور شرع بالاستعداد لعقد المؤتمر العام، وبعد أشهر قليلة تمكنّا من عقد المؤتمر العام الخامس استكمالاً لمؤتمرات الجبهة، وقد عقد في بيروت، حيث اضطر العديد من رفاقنا في الساحات والأقاليم، الوصول إلى مكان المؤتمر، وتمخض المؤتمر عن انتخاب قيادة مركزية قامت بدورها بتعيين مجلس مركزي.
وذلك كإجراء مؤقت، على أن تعقد الجبهة مؤتمرها القادم خلال عام واحد، بحيث تكون الجبهة قد استكملت وثائقها ورسمت معالم وجودها السياسي والنضالي.
صفحة مؤلمة
لقد حاولنا تفادي الاشتباك والاصطدام رغم كل المحاولات للإيقاع بالجبهة وكوادرها عبر استهداف مقر القيادة في بيروت، حيث تم تفجير مكتب الأمانة العامة، فأودي بعشرات الشهداء من رفاقنا ومئات القتلى الأبرياء من المواطنين الفلسطينيين واللبنانيين، فضمدت الجبهة جراحها وكرست جهدها للبناء الداخلي وتطويره ولاستكمال برنامجها التصادمي مع العدو.
عمليات مميزة
كما تفادينا قدر الإمكان الوقوع في فخ دوامة العنف، ونجحنا في فرض وجودنا الميداني عبر سلسلة من العمليات العسكرية المميزة ضد العدو الصهيوني أبرزها عملية نهاريا والزيب البحرية وبرختا في الجولان، وعلى الصعيد التنظيمي تمكنّا من بناء مؤسسات التنظيم على أسس ديمقراطية وبما يمكن من تحقيق الفعالية النضالية المرجوة، وعلى صعيد علاقات بالجبهة العربية، فقد نجحنا في صياغة علاقة قوية مع سوريا.
ونتيجة لـ"كامب ديفيد" وتداعياتها، بدأت الخطوط تتفتح أكثر على الوضع العربي، وعلى الصعيد الفلسطيني، ونجحنا بصياغة شكل من أشكال التعايش بين "القيادة العامة" وجبهة التحرير الفلسطينية إذ حافظت القيادة العامة على وضعها في منظمة التحرير الفلسطينية وتمكنا نحن من انتزاع شرعية وجود جبهة التحرير الفلسطينية في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات الجماهيرية والنقابية، وفتحنا مكاتب تمثيلية في أغلب الدول العربية التي لها مواقف مشرفة من القضية الفلسطينية، وفي عام 1979 عقدت الجبهة مؤتمرها العام السادس، الذي أقر وثيقة سياسية وأخرى تنظيمية وتم انتخاب لجنة مركزية انبثق عنها مكتب سياسي، وبذلك أرسى المؤتمر دعائم متينة لاستمرار الجبهة وتطورها.
مدرسة خاصة
إن نضالنا في الأساس، هو نضال من أجل الأرض، أرضنا التي احتلت، فالتماس مع هذه الأرض يمثل حالة وجدانية، لذك كان همنا هو كيف نشتبك مع العدو الصهيوني فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، وإن أخذنا بالاعتبار قواعد وأصول حرب الشعب، التي تقوم على فكرة أنه لا يمكن تدمير العدو عن طريق إنزال خسائر في أفراده ومنشآته دفعة واحدة بل من خلال مجموعة من الضربات والممارسات التي تربك العدو وتسقط نظرياته الأمنية والتأثير على نفسية جنود الاحتلال، وعليه، و لهذا إن فلسفتنا القتالية ركزت على عودة المقاتل الفلسطيني إلى الأرض بأشكال مختلفة والقتال عليها والاستشهاد فوق ترابها، وترجمة لهذه الفلسفة استخدمت الجبهة كل أساليب القتال المحتملة وإضافة إليها، استخدمنا الهواء عبر الجو والمياه في البحر واستخدمنا الأرض واستخدمنا ما تحت الأرض في بعض العمليات، ونجحنا نجاحات مميزة في تحقيق برنامجنا القتالي وأكاد أجزم أن الجبهة بين عامي 80 و81 بلغت درجة عالية في تطوير كافة وسائلها القتالية.
وعشية الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، كنا منهمكين في التحضير لأوسع عملية نستخدم بها الطيران الشراعي ضد العدو الصهيوني حيث كان من المفترض أن تغير يوم 5 حزيران 1982 أكثر من عشر طائرات شراعية دفعة واحدة على أهداف مختلفة ولكن الاجتياح الصهيوني للبنان اضطرنا إلى تغيير خططنا القتالية إذ زجت الجبهة بكل طاقاتها واستنفرت قواتها في الساحات والأقاليم للدفاع عن الثورة الفلسطينية وعن عروبة لبنان ووحدته، فتصدى مقاتلو الجبهة مع إخوانهم في فصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية للعدوان الصهيوني الغاشم، وسقط في معركة التصدي العديد من الشهداء أبرزهم القائد العسكري للجبهة الشهيد سعيد اليوسف.
فتنة الانشقاق
عند خروج الجزء الأكبر من قوات الثورة الفلسطينية من بيروت وتوزعها على الأقطار العربية، واجهت الثورة الفلسطينية أزمة من نوع آخر، تمثلت في محاولة تحميل منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها تحديداً مسؤولية خسارة لبنان، وهذا يجافي الحقيقة ويجانب الصواب ويصادر الأسئلة الصحيحة مما يعني اغتيال الإجابات الموضوعية التي يمكن أن تساهم في تقديم رؤية صائبة وتؤثر إيجابياً في الواقع العربي والفلسطيني وقد ترافق ذلك مع محاولة إثارة فتنة داخلية داخل فتح العمود الفقري للثورة الفلسطينية، بالنسبة لنا في جبهة التحرير الفلسطينية لقد أطلت هذه الفتنة برأسها ونحن منهمكين في عملية نقدية لتقييم التجربة الوطنية بكاملها وتقييم مستوى أداء الجبهة القتالي والسياسي ونضع اللبنات الأولى في عملية إعادة بناء الجبهة وفق الواقع الذي ترتب عن الخروج من لبنان، لذلك كنا نتألم ونحن نرى أن المقاتل الفلسطيني الذي صمد أمام آلة الدمار الصهيوني يتعرض للإهانة من خلال حملة دعائية مركزة توجت في نهاية المطاف بعمل انشقاقي واسع. فرأينا في ذلك محاولة لإجهاض الثورة الفلسطينية وللقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية بغض النظر عن الشعارات التي طرحت والتبريرات التي سيقت لتغطية ذلك، ومن موقع استشعارنا لخطورة هذه المحاولة الانقسامية حاولنا في جبهة التحرير الفلسطينية توظيف شبكة علاقاتنا الواسعة والاحترام الذي نتمتع به للعب دوراً توحيدياً لكننا لم ننجح بإيقافها فاضطرونا إلى أخذ موقف ينسجم مع منطلقاتنا الوطنية، فانحزنا للدفاع عن حق منظمة التحرير في الوجود.
تباين في المواقف
في الواقع تباينت المواقف داخل الجبهة، إذ أن هذا الموقف لم يكن سهلاً على الإطلاق فلم يستطع البعض تحمل ضغوطات جديدة وانتقالات جديدة وتشرد جديد، مفضلاً اتخاذ موقفاً محايداً لكن الجسم المركزي للجبهة انتقل إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية، مما أحدث خللاً محدوداً داخل صفوف الجبهة، كما أن الذين قادوا الفتنة تسللوا إلى داخل صفوف الجبهة من خلال بعض ضعاف النفوس لإثارة فتنة داخل الجبهة انتقاماً من موقفها السياسي فاستجاب جزء محدود من كوادر الجبهة لهذه الفتنة غير أن الجبهة بجسمها الرئيسي تمكنت من عزل هؤلاء وتعريتهم أمام جماهير شعبنا.
وقد دفعت الجبهة ثمن موقفها بأن اضطرت لنقل ثقلها السياسي وقيادتها إلى مواقع جغرافية جديدة، فانتقلت إلى تونس حيث كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
وهذا الواقع الجديد ولد مهمات أكثر صعوبة من الماضي، كان أبرزها التصدي لمحاولات إفشال مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية من خلال إفشال النصاب المطلوب لعقد مجلسها الوطني، فخاضت الجبهة إلى جانب المدافعين عن المنظمة هذه المعركة، مستجيبة لنداء الواجب الوطني بحضور الدورة السابعة عشرة للمجلس الذي عقد في عمان في 1984 وتحملت مسؤولياتها داخل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وعلى الصعيد التنظيمي تمكنت من إعادة بناء مؤسساتنا وتجاوز حالة الإرباك الذي أحدثه تباين المواقف وتمكنت من عقد المؤتمر العام السابع بحضور أكثر من 125 مندوب، يمثلون كافة الساحات والأقاليم والأقسام المركزية.
ترك هذا المؤتمر بصماته على تطور الجبهة اللاحق إذ خرج ببرنامج سياسي وبنظرة جديدة تماماً وأقر لوائح وأنظمة تنظيمية تراعي التوزيع الجغرافي الجديد بما يفعل وجود الجبهة بغض النظر عن أين تقع أقدامنا جغرافياً.
أكيلي لاورو
لقد أتاح المؤتمر العام السابع فرصة إعادة بناء الجبهة وتفعيل مؤسساتها فقررنا استئناف الاتجاه الاستراتيجي في قتالنا، كما حاولنا أن نثبت للعالم أن المسافات الجغرافية الواسعة التي تبعدنا عن أرض الوطن، لن تثني عزمنا عن الاشتباك مع العدو الصهيوني، وعلى هذه الأرضية خططت الجبهة للقيام بعملية عسكرية تتمثل في إنزال عسكري على ميناء أسدود "أشدود" عبر استخدام وسائل نقل تقليدية، وعلى ضوء عمليات استطلاع دقيقة تبين أن ثمة ثغرة في إجراءات الأمن الصهيونية تتمثل بالمجاميع السياحية التي تقوم برحلات منتظمة إلى الكيان الصهيوني، فوقع عليها الاختيار لنقل المقاتلين الذين سينفذون هذه المهمة.
في خضم عملية الإعداد لهذه العملية، قام طيران العدو الصهيوني بانتهاك حرمة تونس الشقيقة والإغارة على مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط فاخترنا ساعة الصفر لتنفيذ العملية بحيث تأتي رداً على هذه الغارة الوحشية، وبالفعل أعطينا الأوامر لمقاتلينا الذين تمكنوا بنجاح من التسلل إلى السفينة وتمرير أسلحتهم على ظهر السفينة.
وأثناء سير السفينة وتحديداً بعد مغادرتها ميناء بورسعيد في طريقها إلى ميناء أسدود، حدث خلل أمني اكتشف على أثره الرفاق من قبل أحد العاملين في السفينة مما أجبرهم على تحويل وجهة السفينة، من خلال اختطافها، أربكت عملية الاختطاف الجبهة كونها لم تكن ضمن المخطط أصلاً ولذلك عملوا بشكل حاسم وفوري لإنهاء العملية بأقل الخسائر الممكنة وتمكنوا من السيطرة على الوضع وإنهاء عملية الاختطاف بعد ثلاثة أيام من اختطافها.
وعادت السفينة بسلام إلى ميناء بورسعيد، وهناك عرفنا أنه تم قتل أحد ركاب السفينة، فقررت أن أصطحب المجموعة إلى تونس للوقوف على التفاصيل التي أدت إلى حدوث الخلل الأخير وعلى كل ما ترتب عليه، ومحاسبة المقصرين.
ولكن تعرضت الطائرة التي كانت تقلني وأفراد المجموعة إلى عملية قرصنة أميركية أجبرت خلالها على الهبوط في قاعدة تابعة لحلف الناتو في إيطاليا وقد اتخذت الإدارة الأميركية من مقتل أحد الركاب ذريعة لشن حملة شرسة ضد جبهة التحرير الفلسطينية مما أحدث تطورات دراماتيكية، كما سدت في وجه الجبهة بوابات كثيرة ومنها أن تعرضت لحصار قاسي بفعل سيادة المنطق الأميركي، حتى من قبل بعض الأنظمة العربية التي بدأت تضيّق على الجبهة.
الحصار
إن الحصار الذي تعرضت له الجبهة وضعها في مأزق سياسي وتنظيمي، فكان لا بد من إعادة النظر فوراً في أشكال العمل التنظيمي آخذين بعين الاعتبار ما تتعرض له الجبهة فصيغت مجموعة من الإجراءات والقوانين التنظيمية التي مكّنت الجبهة من الصمود في وجه الحصار وتجاوز آثاره فأعادت سياقات عملها السياسي والتنظيمي والجماهيري، ونجحت في إعادة رسم وضعها السياسي والتنظيمي في ساحات العمل الفلسطينية وكذلك في الأرض المحتلة، كما شاركت في قيادة أغلب المنظمات الشعبية الفلسطينية واتبعنا في تلك المرحلة قاعدة "إعلان أقل وفعل أكثر" من أجل إرساء دعائم العمل الجبهوي في ظل الحصار.
عملية القدس
مع اندلاع الانتفاضة المجيدة وما عناه ذلك من انتقال مركز الفعل الكفاحي الفلسطيني إلى داخل الأرض المحتلة رأت الجبهة أن أهم أشكال إسناد الانتفاضة يكون من خلال دعم الانتفاضة عسكرياً، وعدم عزل العمل الانتفاضي الجماهيري عن العمل العسكري، عبر تقاسم خلاق للأدوار والوظائف.
حيث رأينا أن تصعيد العمليات العسكرية واختراق حواجز الأمن الصهيوني بالإضافة إلى أنه سيربك جنود العدو، سيعطي زخماً للعمل الجماهيري، ويرفع من معنويات جماهيرنا المنتفضة، فرفعنا شعار "لينضم السلاح إلى الحجر" وترجمناه على الأرض بمجموعة من العمليات العسكرية وشبه العسكرية، حيث نفذنا أكثر من دورية عسكرية من خارج الحدود سواء من الأردن أو من لبنان وفي عام 87-88 قمنا بحملة واسعة لإشعال الحرائق في الجليل الأعلى وفي عام 1990 نجحت الجبهة في توجيه ضربة عسكرية سياسية واسعة ضد العدو الصهيوني، وذلك عبر إنزال 16 رفيق على شواطئ فلسطين بعدد من القوارب وجاءت هذه العملية بنتائج سياسية في غاية الأهمية ونعتبر أنها حققت أهدافها السياسية التي كان من ضمنها مواجهة الحوار الفلسطيني الأميركي الذي كنا نشعر بعدم جديته حيث كان شبيهاً بحوار الأطرش والأعمى.
من جديد فتحت هذه العملية العيون على جبهة التحرير الفلسطينية فقامت الإدارة الأميركية بنبش الماضي، خاصة وأنها اكتشفت أنه من الخطط الثانوية لعملية القدس استهداف بعض الأهداف الأميركية في تل أبيب، فصعّدت من مواقفها العدوانية وشددت الحصار على جبهة التحرير الفلسطينية في محاولة لتوجيه ضربة قاسية لها.
حصار مزدوج
إن تحالفات الجبهة الرئيسية كانت ولا زالت مع القوى العربية التقدمية، وجاءت نتائج حرب الخليج الثانية المعروفة لترمي بثقلها على الحالة العربية والحالة الفلسطينية وعلى جبهة التحرير الفلسطينية خصوصاً بحكم تحالفات الجبهة، فقد شدد الحصار على الجبهة، ومما زاد في صعوبة وضع الجبهة أن معظم حلفائها بعد أزمة الخليج الثانية تعرضوا لمشاكل، فتعرض العراق للحصار وفرض حظر على ليبيا، وعانى اليمن ويلات جديدة، وعاشت الجزائر أياماً عصيبة وكل هذه الدول تربطها بالجبهة علاقات متميزة وتعتبر حليفة رئيسية للجبهة، فحوصرت الجبهة حصاراً مزدوجاً، حصار يطا لها أصلاً وحصار يطال الدول الحليفة لها. وأمام هذا الوضع ارتأينا أن نعطي فرصة للرفاق الذين بإمكانهم التحرك بمرونة أكثر كونهم خارج دائرة الحصار لقيادة مهمات الجبهة التقليدية، وعلى أرضية هذا الوضع قدمت استقالتي من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورشح الرفيق علي إسحق لعضوية اللجنة التنفيذية كخطوة لإفساح المجال للعمل بمرونة أكثر، وبنفس الوقت أعدنا ترتيب الوضع التنظيمي بصيغة تنسجم مع الظروف الصعبة التي بدأنا نعيشها وخاصة على الصعيد السياسي والإداري.
إعادة البناء
في الواقع عشية أوسلو، بلغت الضغوطات على الجبهة ذروتها وطالت معظم مفاصل وركائز الجبهة.
فعمما سبب في تراجع نشاطها كما بدأت بعض مفاصل التنظيم التاريخية تشعر بالتعب، حيث أصبح الثمن الذي تدفعه الجبهة نتيجة تبني خطها غال جداً وهو ما أدى إلى خروج بعض رفاقنا تحت شعارات معينة متخذين مبررات وذرائع مختلفة بعضها سياسي وآخر تنظيمي وبعضها مباشر للبحث عن حل ذاتي خاص بها، مما أحدث تفككاً في بعض الحالات التنظيمية، ومن جهتنا حاولنا جاهدين عبر المؤسسات ومن خلال المناقشات أن نحافظ على ما يمكن الحفاظ عليه في الحياة التنظيمية والسياسية.
جاءت اتفاقيات أوسلو، وكان وضع الجبهة منهك فرأى البعض في هذه الاتفاقيات فرصة لالتقاط الأنفاس، فقبل بها، غير أن الجبهة بجسمها المركزي وبقيادتها لم تخرج عن موقفها السياسي التقليدي فقررت رفض الاتفاقات والاستمرار في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وفي لجنتها التنفيذية ورأينا في هذا الموقف أكثر حكمة من الرفض والخروج عن إطار المنظمة أو الاندفاع وراء سياسات لا تمثل حقيقة موقف الجبهة ولا تاريخها، وصغنا معادلة متكاملة بين الالتزام بمنظمة التحرير الفلسطينية والبقاء داخلها وبين رفض أوسلو ولم يكن ذلك سهلاً على الإطلاق وبموازاة ذلك، فتحت الجبهة حوارات في داخلها، ومع القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية مكّنها من نحت خط سياسي يحافظ على خياراتها السياسية، على هذه الأرضية أعطيت التعليمات لعدد من كوادرها الرئيسية بالدخول إلى فلسطين، ونجحنا في إعادة بضع مئات من رفاقنا إلى مناطق الحكم الذاتي، وتمكنا من ضخ أكبر عدد من كادرنا لخوض تجربة العمل النضالي بين صفوف شعبنا في ظروفه الجديدة، غير أن مشكلة موضوعية واجهتنا تمثلت بعدم إمكانية عقد اجتماعات منتظمة للجنة المركزية وللمكتب السياسي والهيئات الأخرى، وانشغال بعض الرفاق الذين ألحقوا في الداخل بأمور عديدة، بعضها يتعلق بالعمل الوظائفي الجديد وبعضها في الظروف السياسية الجديدة مما فاقم الأزمة وزاد في إرباك الحياة التنظيمية، الأمر الذي استدعى مني اتخاذ خطوة سياسية جريئة فقررت استثمار انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، ودخلت أرض الوطن كعضو في المجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما أتاح لي فرصة القراءة الميدانية للوضع السياسي والتنظيمي ووفر أرضية صالحة لإعادة بناء جبهة التحرير الفلسطينية في واقع جديد وفي مرحلة جديدة، وقد قطعنا شوطاً لا بأس به على هذا الصعيد.
إن ذلك لم يكن على حساب وضع الجبهة في الساحات العربية الأخرى وخاصة في دول الطوق، منطلقين من إيماننا بأن قضية شعبنا تستدعي وجود جبهة التحرير الفلسطينية في كل مناطق تواجد شعبنا، وفي كل أطر منظمة التحرير الفلسطينية وداخل مفصائل السلطة الوطنية الفلسطينية بالحدود التي ترى أنها لا تتعارض مع منطلقاتها ومبادئها، رغم تقديم الرفيق علي إسحق استقالته من صفوف الجبهة .
ونحن الآن بصدد الإعداد لأوراق عمل سياسية وتنظيمية تستنبط من البرنامج السياسي والتنظيمي العام، وتأخذ بعين الاعتبار الواقع الموضوعي المعاش وتحاول الموائمة بين برنامج الجبهة السياسي المركزي وبين ما هو ممكن سياسياً في ظروف الوطن وفي ظل ظروف العلاقات داخل الساحة الفلسطينية.
انتفاضة الأقصى
هناك عوامل مجتمعة أدت إلى اندلاع انتفاضة الأقصى، منها زيارة الإرهابي شارون للمسجد الأقصى ولكن ليس هذه الزيارة كل شيء، فهناك أسباب كثيرة منها الممارسات التعسفية والإجرامية بحق الشعب الفلسطيني وهدم البيوت والاستيلاء على الأرض وحصار الشعب إضافة إلى سياسة القتل والمجازر والاعتقال، كلها كانت من أسباب اندلاع الانتفاضة.
حققت الانتفاضة الوحدة الوطنية الميدانية وذلك من خلال مشاركة جميع القوى الوطنية والإسلامية في إطار لجنة المتابعة العليا وكذلك مشاركة الجميع في المسيرات المشتركة وجنازات الشهداء ومواساة الجرحى والتصدي للإحتلال، فالكل أصبح مشاركاً وهذا يعود لفعل الانتفاضة ونحن تواقون إلى الأفضل وذلك من خلال قيام وحدة عسكرية بين فصائل المقاومة حتى تكون الانتفاضة فعل جماهيري وعسكري بمواجهة العدو الصهيوني، وندعو إلى رؤية استراتيجية سياسية ملموسة وبالتالي فإن وضع هذه الرؤية سيؤدي إلى تعزيز دور الانتفاضة والمقاومة في التصدي للإحتلال الصهيوني وقطعان مستوطنيه على أرض فلسطين، وسيؤدي حتماً إلى تحقيق ما انطلقت من أجله الانتفاضة.
موقع جبهة التحرير الفلسطينية في الانتفاضة
حين اندلعت الانتفاضة في 28/9/2000 عكفت الجبهة على دراسة الوضع وأخذ الإجراءات والقرارات الكفيلة بالمشاركة الفعلية في الانتفاضة على الصعيد الجماهيري وعملت على استنباط أساليب للدعم العسكري لشعبنا داخل الوطن المحتل وذلك من خلال تدريب مناضلينا، وأمام هذا الدور الذي اضطلعت به جبهة التحرير الفلسطينية قامت الجبهة بتنفيذ العديد من العمليات البطولية والجريئة ضد العدو الصهيوني في حيفا وبيت جالا ورام الله والقدس الاستشهادية وغيرها من العمليات وقدمت خيرة من كوادرها ومناضليها شهداء ومنهم الشهيد عبد الناصر حديب أحد قادة الجناح العسكري للجبهة في الخليل الذي اغتالته قوات العدو وبشّعت بجثته.
وأمام ما تقدم ألا وهو لمحة سريعة عن دور جبهة التحرير الفلسطينية في الانتفاضة وهي تستنبط أساليب كفاحية تتماشى وطبيعة الظروف التي تفرضها ساحة المواجهة فنحن نقول أن الأيام القادمة ستكشف عن أساليب نضالية وكفاحية تثأر لدماء شهداء الانتفاضة في غزة هاشم والقدس والضفة وعلى امتداد أرض فلسطين وتؤكد بأننا سنثأر لدماء الشهداء القادة الذين تعرضوا للاغتيال من قبل حكومة الإرهابي شارون كما نؤكد أيضاً بأن الدم سيُنبِت مناضلين أشداء يسعون لتحرير فلسطين.
الأسرى والمعتقلين
كل التحية وكل التقدير للأسرى البواسل الذين يواجهون الجلاد الصهيوني من داخل الزنازين ويؤكدون على مواصلة النضال وألف تحية للمناضل الشجاع القائد "سمير القنطار" بطل عملية نهاريا – عملية الشهيد القائد "جمال عبد الناصر"، هذا المناضل العربي اللبناني الفلسطيني الذي تربى على حب القضية القومية فلسطين ومن أجلها أُسِر ليؤكد للعالم أن ما أُخِذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، فلسمير من رفاقه وجبهته التي انتمى إليها منذ طفولته كل الاعتزاز والتقدير لمواقفه الوطنية والقومية خاصة بعد أن قاد الحركة الأسيرة في المعتقل فأصبح بجدارة عميد الأسرى العرب مؤكدين له أن الفرج قادم والحرية قادمة والاحتلال إلى زوال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق