الجمعة، 4 ديسمبر 2009

الاجتياح الصهيوني للبنان وتأثيراته


الاجتياح الصهيوني للبنان وتأثيراته

حرب عام 1982 كما هي الحروب المعتادة بتصاميمها الفنية وإخراجها المتقن والممزوج بين العرب والصهاينة، وحتى الديكورات والأزياء كانت من معارض عام 1967 المستعملة.. مع بعض ديكورات حرب عام 1973 قريبة العهد على الاهتراء، حيث تصدى مقاتلي القوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية في الجنوب وتحديداً في مخيمات الرشيدية والبص والبرج الشمالي وعين الحلوة وخلدة للقوات الغازية الصهيونية ببسالة واستمرت المعارك أسابيع.
ففي غضون أيام قليلة، أو ساعات معدودة كان قد تجمع مَن استطاع الوصول من المقاتلين على بيروت والبقاع الشرقي، وقد حصلت معارك مشرّفة حول المخيمات الفلسطينية، إلى أن بدأت فيما بعد معركة بيروت التي قاومت ببسالة منقطعة النظير مدة (87) يوماً وقد أصيب الرفيق "أبو العباس" في رأسه بعد تعقبه في الأماكن التي كان يحتمي بها، إذ لم تتوانى الطائرات الإسرائيلية عن تدمير بناء كامل مأهول بالسكان من أجل وصول صاروخ إلى مكان وجوده حيث كان يشكل هذا المبنى عائقاً لهم من أجل ذلك.
قدم الشهيد "أبو العباس" إلى سوريا فوراً، أما "أبو عمار" فبعد رحلة طويلة من بيروت إلى اليونان، وعواصم عربية وأجنبية مختلفة، أيضاً جاء إلى سوريا.
وأضحت المقاومة الفلسطينية من غير توأمها "الحركة الوطنية اللبنانية" وبعيدة عن تلال فلسطين وهضابها، وبحرها المتوسط الذي تعانق مياهه عكا وصور، وكذلك أضحت المقاومة من غير عاصمة سياسية لها.
ومثل أية هزيمة في أي جزء من بقاع الأرض، يقف المنتصر والمهزوم حتى يراجع كلٌ منهما أوراقه، فكانت الخلافات هنا سيد الموقف، أولاً في حركة فتح لأنها العمود الفقري والتنظيمي للمقاومة في لبنان، وبدأت الاتهامات والخلافات حتى اشتد سعيرها باتجاه القطيعة، فالانشقاق الكبير في صفوفها، وما عُرف عنه باسم "المنشقين".
وحتى ننصف الشهيد "أبو العباس" بمنطقية عادلة دون التحيز إلى أي طرفٍ كان، حتى إليه نفسه، يمكن القول – إن الشهيد كان أمامه أمرين أحلاهما مرٌ، وكان هذا ما قاله أمام الكثيرين من رفاقه فيما بعد. وذلك قبل أن يبدأ في الدفاع عن وجهة نظره التي تبلورت فيما بعد بضرورة الاستفادة من المعطيات التاريخية والإمكانيات المتوفرة ضمن الشروط الدولية الجديدة مع الاحتفاظ بحقنا في الدفاع عن قضيتنا في أي وقت وأي مكان.
فالمهم أن الشهيد "أبو العباس" عام 1983 وعندما عصفت به هذه الحوامات السياسية أطلق صرخة احتجاج واضحة بوجه تصفية م.ت.ف وقرر السفر من دمشق إلى الكويت برفقة الرفاق عدد من اعضاء المكتب السياسي و اللجنة المركزية عدد كبير من قيادة وكوادر ومنضلي واعضاء الجبهة.
وهنا لا بد من القول أن الشهيد "أبو العباس" كان قد حسم تردده السياسي نهائياً وأكد على التمسك بالثوابت الفلسطينية وقرارات الإجماع الوطني وأقر بالموافقة على قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194.
ومنذ ذلك التاريخ صار يدافع عن وجهة نظره بكل جرأة ويقول في هذه المرحلة لا يمكن أكثر من ذلك مع الاحتفاظ الدائم في حديثه بالحق المشروع في قتال العدو الصهيوني، لأن ذلك أيضاً من الصعب تحقيقه من خلال الدبلوماسية الدولية، فكان يظهر بين فترة وأخرى على مسرح الأحداث العسكرية العامة ابتداء ً بعملية "أكيلي لاورو" مروراً بعملية "القدس البحرية" وانتهاءً بعملية تهريب أسلحة من البحر الأحمر إلى ميناء العقبة وعملية "القدس الاستشهادية" التي نفذتها مناضلة من مناضلات الجبهة في القدس الغربية أعلن الجناح العسكري مسؤوليته عنها ووزع بيان وملصق للشهيدة في الشهر الرابع من عام 2002 في بغداد.
إذن المتتبع لشخصية القائد الرمز"أبو العباس" السياسية والعسكرية منذ عام 1968 وإلى عام 2003 في 14 نيسان يوم اعتقاله في بغداد، يجد في هذه الشخصية الفريدة توقها الدائم إلى مجابهة الاحتلال الصهيوني أينما كان، وعندما يتوفر له ولو بصيص رؤية للوصول إلى فلسطين سواء من البحر أم من البر أم من السماء حيث لا يألو جهداً على رمي كل الأوراق والمعاهدات في سلة القمامة متجاوزاً كل الآداب السياسية الرسمية في التعاطي مع قضية فلسطين، فمثلاً في إحدى الجلسات حدّث "أبو العباس" رفاقه من باب الطرافة – أنه عندما دخل إلى غزة في نيسان عام 1996 للمشاركة في اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني استوقفه حاجز لقوات الاحتلال الصهيوني واعتقد "أبو العباس" أن الضابط الذي كان يحدثه هو عربي من سلطة الحكم الذاتي، لأنه يتكلم اللغة العربية بشكل جيد، فحاول من باب التسلية التحدث مع هذا الضابط إذ قال له – هذه الدولة (وهو يشير إلى أراضي عام 1948 من فلسطين) لا تفهم هذه اللغة، بل تفهم لغة الدم والقتل، وما نراه الآن ليس إلا خدعة عسكرية مؤقتة.
إن الشهيد "أبو العباس" كان يعرف جيداً وعن كثب ماهية هذه الدولة الصهيونية منذ أن كان في رحم أمه وهي تجر قدماها المتشققتين من طيرة حيفا باتجاه لبنان وسوريا، وبقي على هذه المعرفة حتى عندما جنح مع رفاقه للسلم مع هذه الطغمة العسكرية... ولكن هم لم يجنحوا لها.
منذ تشرين أول 1985 بعد عملية ميناء أسدود "أكيلي لاورو" كانت بغداد هي المعقل الأخير الذي لا مفر منه للشهيد "أبو العباس".
باستثناء بعض الزيارات إلى الأراضي المحتلة كانت أهمها حضوره مناقشات المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في غزة عام 1996 وبعض الزيارات السرية إلى ليبيا والجزائر، وأخيراً محاولته الذهاب إلى القاهرة عام 2002 لحضور اجتماع فصائل المقاومة الفلسطينية لمناقشة موضوع وقف إطلاق النار، واعتذرت يومها الحكومة المصرية فوراً بعد أن وصل إلى مطار القاهرة بذريعة أن هناك طلباً أميركياً ملحاً لاعتقاله وتسليمه.
والغريب ليس فقط أن حكومة العدو سمحت له عدة مرات بالدخول إلى فلسطين، بل أيضاً الحكومة الأردنية لم تعترض أيضاً على دخوله عمان أو مروراً إلى فلسطين من خلال أراضيها، فمن الواضح أنهم كانوا يبيّتون له هذا المصير حسب المخطط الأميركي – الصهيوني العام والذي يعمل من أجل بناء الشرق الأوسط الكبير من خلال احتلال بغداد، خصوصاً أنه في الفترة الأخيرة لم يكن يشكل أي خطر مباشر فعَّال على الدولة العبرية، وكل ما هنالك لا بد من تصفية الحسابات الماضية، ولذلك تريثوا مع "أبو العباس" وأسرعوا بالتنفيذ مع رفيقه "أبو علي مصطفى" الذي كان يعمل في قلب فلسطين.
لم يكن وجود الشهيد "أبو العباس" في بغداد خالٍ من الفعالية والنشاط بالرغم من الفارق الكبير بين مرحلة بغداد ومرحلة دمشق وبيروت، فهذه المرحلة الأخيرة (بغداد) كانت هي الأضعف بالمقارنة، والتي أدت بالشهيد إلى مزاولة نشاطه اليومي بالشؤون التنظيمية لجبهة من داخل بغداد، وتنظيم العلاقة الفلسطينية العراقية.
فكان لديه الكثير من النشاطات اليومية، والتي حوّلت مكتبه في بغداد (الأمانة العامة – والساحة) إلى خلية تعج فيها الفعاليات الرسميّة، والغير رسمية من العراق وخارجه.
فكان لا بد من أي زائر من فصائل المقاومة، أو الأحزاب والقوى الوطنية الديمقراطية العربية عندما يأتي إلى بغداد أن يزور بالضرورة "أبو العباس"، ويتحدث معه سواء مَن كان يتفق معه سياسياً أو مَن كان ضده، وذلك لطبيعة الإرث المتنوع في تاريخ "أبو العباس" السياسي.
ولا يكتفي فقط بالأوقات السريعة المتاحة داخل المكاتب لاستقبال الوفود، بل كان أيضاً يستضيفه في مزرعة قريبة من بغداد للتداول بشكل مفصل عن الأحداث ووجهات النظر المختلفة من هنا.. وهناك.
وتكون الزيارة غير ذات قيمة إذا لم يعرج الزائر ويسلم على "أبو العباس" ولو حتى من باب الواجب والكياسة السياسية.
إلى جانب كل ذلك كان في القرب من بغداد معسكراً للتدريب يستضيف بشكل دائم كوادر من جميع فصائل المقاومة القادمين من الأرض المحتلة بشكل سري، حيث كان يجتمع معهم عقب انتهاء دوراتهم العسكرية ويقدم لهم التوجيه السياسي والعسكري الضروريين، وكانت الكثير من العمليات الناجحة في فلسطين قد تم تدريب كادرها في معسكر القدس ببغداد مما أقلق الحكومة الإسرائيلية التي دفعها إلى تقديم ملف "أبو العباس" بيد شارون إلى الرئيس الأميركي جورج بوش مؤكدة ضلوعه "بالعمليات الإرهابية" حسب زعم الصهاينة.
وكان الشهيد ينتظر الفرصة المتاحة من أجل العودة، أو أن الانتظار فرض عليه لأن منظمة التحرير نصحته البقاء في بغداد للحفاظ على سلامته، وذلك حسب ما ذكره للمقربين منه.
وفي غمرة هذه السنوات الطويلة في عددها 1985 – 2003 ثمانية عشر عاماً من خلالها تبلورت وجهة نظره السياسية التي اتسمت بالواقعية ما عدا حادثتين:

1. عملية تل أبيب.
2. عملية تهريب أسلحة عبر البحر الأحمر إلى فلسطين، والتي كشفت قبل الوصول إلى ميناء العقبة عام 2001 حيث كان سيتم إدخال الأسلحة والذخائر عبر طرادات بحرية قبل وصولها بقليل، ومن ثم تدخل السفينة إلى الميناء لتفريغ حمولتها التجارية (ومن الملاحظ أن العمليات التي كان يشترك بها عناصر غير عربية مصيرها محكوم عليه بالفشل، وذلك لعدم وجود الالتزام القومي، والطابع التجاري الذي يتسم بها العمل، أيضاً المسافات البعيدة عن فلسطين والتي كان لا مفر من استخدام أراضي دول الغير ومياهها الإقليمية حتى وسائل النقل البحري لهذه الدول، مثل إيطاليا "أكيلي لاورو" وليبيا "عملية تل أبيب").
فشتان بين هذه الأقاليم، والأردن ولبنان وسوريا، الرحم العربي المليء بخصوبة العطاء والذي يحتضن فلسطين بكل حنان الأم القادرة على الدفاع والهجوم وبكل الطاقة حتى الكامنة لديها من أجل حماية صغارها.
وبعد إدراكه هذا الواقع عن كثب وملموسية مباشرة، تنامت لديه فكرة الاقتراب من فلسطين، فصار يجاهر علانية بأن نشاط الجبهة يقتصر الآن على داخل الأرض المحتلة، مستبعداً أية إمكانية قابلة للتحقيق من خارج فلسطين، وخصوصاً عندما يعرض عليه رفاقه من سوريا أو لبنان أو حتى العراق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق