.jpg)
على الرغم من العمل الطويل للثورة الفلسطينية فإن فك رموز الرئيس ياسر عرفات الشخصية، ليست بالأمر الهين، فمن يعرفه جيدا قد لا يستطيع البوح بأسراره لفك الرموز المحيطة بالشهيد القائد ياسرعرفات، واستنطاق ملامحه الشخصية وتجاربه الذاتية في اطاره كإنسان.. وسياسي...وزعيم...وفلسطيني.
حيث اكد الاخ المناضل الاستاذ" يحي رباح، سفير فلسطين في اليمن سابقا، وأحد المقربين من الرئيس الشهيد، الذي رافقه في رحلة النضال منذ فجر الثورة حتى تاريخ استشهاده. إنه لم يكن يوما عابسا، إذ تعرف عليه في عام 1968 في مقر إذاعة صوت العاصفة الناطقة باسم حركة فتح في ذلك الوقت، والتي كان مقرها (4 شارع الشريفين، في مدينة القاهرة) وقد كان هذا المقر أصلا لأول إذاعة مصرية. ويضيف "منذ ذلك الوقت انجذبت إلى هذه الشخصية، وكلما كنت اقترب منه أكثر، كنت اكتشف قوة إضافية وصفة هائلة في هذه الشخصية.
فيما بعد انتقلت إلى العمل في ساحات أخرى – يقول رباح- في الأردن والجزائر وسوريا ولبنان، ثم للعمل في القوات العسكرية للثورة الفلسطينية في العرقوب في جنوب لبنان وشمال سوريا، وخلال عملي في القوات العسكرية ازدادت معرفتي بالرئيس عرفات وازداد التصاقي به، وبعد ذلك عدت مرة أخرى إلى الإعلام وعملت مديرا عاما للإذاعات الفلسطينية، ثم سفيرا لفلسطين في الجمهورية اليمنية.
.jpg)
محاولات الاغتيال:
تعرض الرئيس الشهيد ياسر عرفات طوال مسيرته النضالية إلى العديد من محاولات الاغتيال بلغت أكثر من 13 محاولة اثنتان منها بالسم وما اعرفه أكثر من 30 محاولة اغتيال.
ولكن هناك عشرات محاولات الاغتيال للرئيس بالسم أو بالقصف، وأصبح الرئيس عرفات في حصار بيروت لا يستطيع التحرك في الأيام الأخيرة، فما أن يخرج من بناية حتى تكون قد جاءت الإخباريات وتقصف تلك البنايات التي كان يقضي فيها يوما، وكانوا يبحثون عنه بالطائرات لكي يغتالوه، أيضا عاش فترات صعبة في حياته نتيجة المعلومات التي كانت تؤكد له انه ملاحق بالاغتيال.
ففي سنة من السنوات قضى بضعة شهور يأخذ طعامه وماءه معه عندما يسافر إلى دول بعينها، مدعيا انه يمر بحالة صحية معينة وان الأطباء وصفوا له هذا الطعام وهذا الشراب، حتى لا يضطر أن يأكل من طعام تلك الدول التي يزورها لأنه كان لديه معلومات انه مدرج على قائمة الاغتيال، وكان عندما يأوي إلى النوم بعد أكثر من 20 ساعة من العمل يعلم أن رأسه موضوع على مخدة من المتفجرات، لا يعرف إذا كانت ستنفجر الآن أم لا، وعاش كل حياته على جناح وتوقعات الخطر.
ذاكرة حديدية:
ويرصد رباح مزايا الرئيس ياسر عرفات التي يصفها بالخارقة إذ عرف عنه القدرة الفائقة على العمل والحركة المستمرة بحيث انه كان دائما يعمل أكثر من 20 ساعة في اليوم الواحد، وتمتعه بذاكرة خرافية تحفظ ملايين من التفاصيل وأسماء الناس، وكان لا ينسى وجها رآه على الإطلاق.
ويشير رباح إلى جوانب أخرى في شخصية الرئيس الشهيد تتمثل بطاقة الإيمان والشجاعة الهائلة التي يمتلكها، يستذكر رباح عن الفترة التي كان يعمل خلالها في قواته العسكرية في جنوب لبنان مفوضا سياسيا للقوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية في جنوب لبنان "كان الرئيس عرفات يأتي لزيارتنا بشكل مفاجئ أثناء المعارك بيننا وبين قوات العدو الصهيوني في بعض المناطق، وكنا نرجوه حرصا على سلامته أن لا يصل إلى الخطوط الأولى ومواقع الاشتباك، ونقول له أننا سنضعك في الصورة وعلى تفاصيل العمليات، لكنه كان يرفض ذلك رفضا شديدا، ويذهب إلى موقع كل معركة والى كل مكان تدور فيه الاشتباكات بنفسه.
ويستذكر رباح كذلك المعارك التي كانت تدور في النبطية عام 1979 أن موكب الرئيس الشهيد ابو عمار وصل عن طريق الزهراني النبطية، بينما كان في انتظاره الحاج إسماعيل جبر على الطريق، وكان الحاج إسماعيل في ذلك الوقت قائدا للقوات المشتركة في جنوب لبنان، وقلنا له إن قصف طائرات ومدفعية العدو الصهيوني على موقعنا كثيف جدا، نرجوك أن لا تذهب إلى النبطية، لكنه أصر، وعدنا نحن معه مرة أخرى إلى موقع المعركة، وفي ذلك اليوم أصيب بشظايا صغيرة في وجهه ويديه نتيجة القصف، ولأن الصهاينة تمكنوا من مراقبة موكبه وهو يتقدم باتجاه الموقع ، اضطررنا تحت كثافة القصف أن نوجه موكبه في اتجاه ، وأخذناه نحن في سياراتنا باتجاه.
ويستذكر رباح أيضا أن الرئيس ياسرعرفات خلال عملية ما تسمى عملية الليطاني عام 78 – الاجتياح الصهيوني المحدود لمناطق من جنوب لبنان- كان يصل إلى أقصى خطوط الاشتباك، "وفي احدى المرات رأينا الأخوة الشهداء القادة أبو جهاد و أبو الوليد يحاولان معه مغادرة النقطة التي يقف فيها لأنه كان عرضة لأكثر درجات الخطر، حيث كان يقف على جسر القاسمية على مداخل مدينة صور الذي يعتبر آخر نقطة للاقتراب من قوات العدو، وبصعوبة بالغة تدخلنا برجائنا الشديد إلى أن تمكن من مغادرة هذا المكان بعد أن وعدناه أن نقوم بتنفيذ كافة التعليمات التي أصدرها إلينا.
كان الرئيس الشهيد ياسر عرفات دائما وفقا لرباح يجسد القول التاريخي لكل زعيم كبير (اتبعوني) ولا يقول اذهبوا وإنما يقول اتبعوني أنا ذاهب أمامكم، وفعلا كان من خلال زيارته لأشد المواقع خطورة يعطي مثلا ونموذجا لآلاف من المقاتلين الذين جاؤوا طوعا وتركوا قراهم وبلادهم وإعمالهم وجامعاتهم، وكانوا دائما بحاجة إلى زعيم يعطيهم هذا الإلهام وهذه القوة المعنوية.
.jpg)
فراسة نادرة:
وإلى جانب حرص الرئيس الشهيد على تقدم مواقع القتال ومتابعة مجريات المعارك من داخل الميدان، فقد تمتع بحدس قوي وفراسة نادرة. وكما يقول رباح فإن عرفات يملك هذا الحدس الشديد سواء الأمني أو الحدث، ويستذكر رباح انه قبل شهرين أو ثلاثة أشهر من الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 "زارنا القائد الرمز في الجنوب، وذهبنا معه إلى صور، حيث أصر على الالتقاء مع عدد كبير جدا من الكوادر من الذين هم على رأس قواتهم وكتائبهم، وأصر على أن يتصور معنا جميعا صورا جماعية وفردية قائلاً: لا أحد يعرف إذا كان أصحاب هذه الصور سيلتقون ثانية أم لا.
ويتابع رباح "العجيب انه بعد قرابة 3 شهور وقع الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان، وحصار بيروت واجتياحها، واستشهد عشرات من الذين كانوا في تلك الصور مع الرئيس، وتفرقت بهم السبل وكانت نبوءاته صادقة ودقيقة جداً.
كانت للشهيد ابو عمار قراءة واسعة ودقيقة جداً للأوضاع السياسية وكثيرا ما كان يحدثنا في جلساته معنا ما الذي سيجري من أحداث، وكنا نحن نستغرب، ولكن التجارب أثبتت على الدوام صدق تقديراته نتيجة الذكاء الشديد، والقدرة على المتابعة التفصيلية لانغماسه الكلي في عمله.
في سفوح جبل الشيخ:
كان الرئيس ياسرعرفات يؤمن أن الاتصال المباشر هو أفضل الطرق لتوصيل الرسالة واستقراء الأوضاع وكما يقول رباح فإن الرئيس الرمز يكاد يكون المبتدع الأول والاهم لنظرية الاتصال المباشر؛ لانه كان يعرف أن مشكلة الشعب الفلسطيني وعقدته الرئيسة هي في الشتات الواسع على مدار الكون، وكان عبر نظرية الاتصال المباشر يسعى دائما لان يكون على صلة مع هذا الشتات، وكان حين يذهب إلى بنغلادش أو الهند أو دول أمريكا اللاتينية يحرص على أن يرى الفلسطينيين هناك حتى لو كانوا على أصابع اليد الواحدة، حتى أنه كان يصر على أن يذهب إلى المواقع التي يصعب الوصول إليها.
فكان على سبيل المثال كلما أتى لزيارتنا في جنوب لبنان في قطاع النبطية يصر على أن يذهب إلى قلعة الشقيف، وكان يصعد على قمة القلعة التي يصعد إليها الشباب بالكاد، لكي يسلم على المقاتلين الموجودون في مواقعهم وخنادقهم، وكانت أيضا لدينا مواقع صعبة جدا بالغة الصعوبة في السفوح الغربية لجبل الشيخ، في رويسات العلم وغيرها، وكان يصر على أن يصل إلى أولئك المقاتلين الموجودين في المواقع، حتى في فصل الشتاء حين كانت الثلوج متراكمة.
وكان أيضا على صلة شديدة بالآلاف من هؤلاء المقاتلين الذين يعملون تحت قيادته، كان يتابع صحتهم وأخبار عائلاتهم، ويسال عن أولادهم إذا كانوا يعانون من بعض المشاكل المرضية أو غير ذلك.
شديد الاعتزاز بشعبه:
كان لدى الرئيس عرفات ثقة كبيرة جداً بالشعب الفلسطيني والانسان الفلسطيني، ويفتخر دائماً حين يقارن أعداد الحاصلين من الفلسطينيين على شهادات عليا بمن حصلوا عليها من دول أخرى، ويشعرنا بالتفوق، وكان عندما يجد أديبا فلسطينيا له كتاب شهير أو ديوان شهير يأخذ نسخا منه ويوزعه على الآخرين في زياراته لهم حتى لو كانوا رؤساء أو ملوكا أو أمراء، ويسعد لان يقدم لهم كتاب الشاعر الفلاني أو رواية هذا الأديب الفلاني، وكان اعتزازه بكل إبداع فلسطيني وكل نبوغ فلسطيني لا حدود له، ويفخر دائما بأن يأخذ بعض هؤلاء النابغين الفلسطينيين معه في طائرته لكي يقدمهم إلى شخصيات أخرى في العالم.
.jpg)
تقشف ممزوج برقة في الطباع:
يكاد الرئيس عرفات يكون متقشفا في حياته الشخصية إلى أقصى الحدود ، وقد فرض شروطا قاسية على حياته. كان لفترات طويلة من الزمن يرتدي بعض قطع الملابس التي أخذها من زملائه الشهداء في اللجنة المركزية، "وكان يقول لنا هذا السروال الذي ألبسه، سروال الشهيد أبو صبري، أو أن هذا القميص أخذته من فلان الفلاني، وكان في بعض الأحيان إذا تمزقت بعض ملابسه يحيكها بنفسه ويصلح أزرارها، وكان دائما معه عدة الخياطة في حقيبة أدواته الخاصة المليئة بكمية متنوعة من الحبوب والأدوية التي يعالج بها نفسه.
ومراعاة لصحته ووزنه وكي يتمكن دائما من أن يكون في اللياقة الملائمة، كان يعيش تحت نظام غذائي قاس، في بعض الأحيان كان لا يأكل سوى بضع جرامات في اليوم الواحد ويعرف كل من تناول الغذاء أو العشاء أو الإفطار معه أن من بين عاداته الثابتة انه يطعم جميع الجالسين حوله من الطبق الذي أمامه، ويناولهم الطعام بيده، ويجعلهم يشعرون بالقرب الشديد منه.
وكان الاخ الرئيس لديه نقطة ضعف خاصة جدا تجاه الأطفال، فلم يكن يتوانى حتى ونحن في اشد الضائقات المالية عن تقديم المساعدات لعلاج الأطفال مهما كانت التكاليف باهظة ، وكان يقول أن هؤلاء الأطفال لهم الأولوية، حتى عندما كنا كمنظمة أو كثورة فلسطينية نمر بضائقات مالية كان لا يتخلى عن هذا الدور وينفذه رغم بعض الاحتجاجات. ولم يفرط الأخ أبو عمار على الإطلاق بعائلات أعدائه وخصومه، الذين تمردوا عليه وانقلبوا عليه ووجهوا له الأذى والإهانات، ويقول عن ذلك "هم شيء وأولادهم وعائلاتهم شيء آخر"، ويستمر في صرف مستحقات تلك العائلات، ويقدم المساعدات ، أو يسال عن أحوالهم ، و"لا تنسى أن الأخ ياسر عرفات ابتدع قانونا إنسانيا مثيرا للاعتزاز والافتخار ، وهو انه ظل يصرف مستحقات ومخصصات عائلات الجواسيس، كان يقول أن هؤلاء الأولاد لا يجب أن يتحملوا أوزار آبائهم.
حرب اكتوبر:
كانت للرئيس عرفات رؤى تعتبر خارقة، فبعد نكسة 67 التي حلت بالعرب تلك الهزيمة المجلجلة جاءه بعض قادة الفصائل الفلسطينية وهم معروفين وطلبوا منه إلغاء الثورة وقالوا: إذا كانت الدول العربية القوية قد احتلت في بضع ساعات فماذا سنفعل نحن كمناضلين صغار بأسلحة بالكاد احدنا يملك بارودة فردية صغيرة. لكنه اخذ قرارا باستمرار الثورة رغم فداحة الخسائر هو الذي أعاد الحياة ليس فقط للقضية الفلسطينية بل حرض الأمة العربية على اتخاذ قرار حرب الاستنزاف وإزالة آثار العدوان التي تجسد في انتصار حرب أكتوبر عام 1973.
بعد الهزيمة الكارثية التي حلت بالعرب عام 67 حين احتلت العدو الصهيوني في بضع ساعات لضفة الغربية وقطاع غزة والجولان والحمة السورية وصحراء سيناء، صار هناك انهيار الثقة بالنفس التي سادت العالم العربي، وكان مجرد لبس الزي العسكري يعتبر مهانة في العالم العربي، وكان المواطنون يتندرون بالدعابات القاسية عندما يرون ضابطا يلبس بزته العسكرية ويضع الرتب على أكتافه، كانوا يسلخونه بالسنة حداد نتيجة حالة اليائس والإحباط.
وفي هذه المرحلة، لا أحد يستطيع إلا أن يقر ويعترف بأن الذي قاد عملية النهوض المعنوي في هذه الأمة، هو رجل اسمه الرئيس ياسر عرفات، أصر أن يلبس زيه العسكري، وأن يتحرك في دمشق وبيروت بسيارته "الفولوكس فاجن" المموهة والمرقطة بالطين، حتى أن قيادة الأركان في البلدين في ذلك الوقت طلبت منه أن يتخلى عن الزي العسكري، وأنه لا داعي لتمويه السيارة تمويها عسكريا، لأن الحالة المعنوية كانت في الحضيض، إلا أنه أصر على ذلك وشكل بذلك رافعة معنوية.
وفي أعقاب النكسة أيضا، قال موشيه دايان قولته المشهورة: " إنني جالس بجوار هاتف منزلي انتظر من القادة العرب إعلان الاستسلام"، لكن ردا على هذا الانتظار بدأ عرفات بهؤلاء الفدائيين البسطاء ذوي التجهيزات البسيطة حرب استنزاف ضد إسرائيل، وجعلها لا تستمع بالنصر ولا تشعر بالراحة والطمأنينة، وبدأ ببناء القواعد العسكرية على طول خط نهر الأردن في القاطع الشمالي في الأغوار الشمالية والوسطى والجنوبية التي انتشر فيها الفدائيون، وقاموا بعمليات كثيرة في اليوم الواحد في العمق الإسرائيلي وعلى الحدود، وعمليات قصف بما توفر لديهم، وعمليات بـ"الآر. بي.جي" وكل أنواع الأسلحة التي كانوا يمتلكونها.
نشر الرئيس عرفات هذه القواعد في الجولان، وبدأ عبر ممر جبل الشيخ ينشر بعض بدايات هذه القواعد في لبنان في منطقة العرقوب، وفي بقية مناطق الجنوب اللبناني، وهذا يؤكد بالدليل القاطع على أن أول من قام بعمليات حرب الاستنزاف ضد الكيان الصهيوني وجعل هذا الكيان لا يشعر بالراحة والطمأنينة للانتصار التي حققه عام 67 هو ياسر عرفات، وكان هذا هو المدخل للجيوش العربية لأن تحذو حذوه.
من هنا بدأت فكرة حرب الاستنزاف التي تبناها جمال عبد الناصر، والقيادة السورية، ومعروف أن المصريين أنفسهم قاموا بتكوين منظمة "سيناء العربية"، وقاموا بعد ذلك بعمليات في سيناء، وتواصلت وهذه الحرب حتى أعيد على ضوئها بناء الجيش المصري الذي حقق انتصار عام 73.
عرفات في القرارات الصعبة:

اتخذ الرئيس ياسر عرفات قرارا يتجاوز المقاييس العسكرية والموضوعية المعروفة للبشر حين قرر خوض معارك الكرامة في 21/3/1968 وكان يرى الفرق المدرعة الصهيونية تتقدم على هذه المجموعة القليلة من الفدائيين الذين كانوا يملكون رشاش دوشكا واحد فقط في الكرامة في غور الأردن، وهو يعرف أن موازين القوى مختلة بشكل صاخب، ولكنه أصر على أن يأخذ قرارا بخوض المعركة.
وقعت المعركة وانتصرنا فيها وكانت هي الفعل الأول الذي أعاد الثقة للأمة العربية بأنها قادرة على الانتصار بعد 9 أشهر من الهزيمة المدوية في عام 67، وكانت أول انتصار عربي اثبت للأمة العربية أنها فعلا قادرة أن تتحمل فداحة الجرح وان تصنع الانتصار من جديد.
ورغم أن الكثيرين من الذين عملوا معه، وكانوا على اتصال مباشر معه يؤكدون أنه كان يمسك بخيوط اللعبة وأن أحداً لم يكن يملك أي قرار ، وأن من يتخذ القرار هو فقط ياسر عرفات، وأن أي تفويض باتخاذ قرار لأي شخص لابد أن يكون بأمره، إلا أنه لم يكن فرديا في قراراته، كان يعمل على الأقل 20 ساعة يومياً، وقد قضى معظم عمره ليس له عائلة، فلم يكن له زوجة ولا أولاد ولا بيت بمعنى البيت، فلم يكن هناك شيء يشغله على الإطلاق عن العمل، لذلك كان متفرغا لهذه القضية ولأعبائها.
الرئيس عرفات كان قادرا أن يكون الملهم وان يصنع من حوله إجماعا لايتوفر لأشخاص أو إطارات أخرى، لذلك كان من يقبلون به لا يقبلون بغيره بسهولة، لأنهم يرونه طوال اليوم والنهار يعمل من اجل هذه القضية، لا يملك شيئا سواها، وعندما تفرغ للعمل بشكل نهائي لهذه القضية كان لديه شركتي مقاولات في الكويت، ترك كل ذلك وجاء لكي يرتدي البزة العسكرية ويضع مسدسه على وسطه الذي لا يفارقه لآخر لحظة، لذلك كان وجوده ضروريا وملحا، وهذا لا يعني أنه لم يعط صلاحيات لأحد، على العكس، كان عرفات يدفعنا دفعا إلى أن نأخذ صلاحيات، وكان يكبرنا ويعطي إضاءة ويسلط هذا "البروجكتور"على أشخاصنا لكي نقوم بالأعباء المكلفين بها، فقد أرسلنا سفراء ولم يكن أحدنا قد قرأ ولو صفحة واحدة عن أصول الدبلوماسية، ولكنه بالثقة والمتابعة أقنعنا ودب فينا روح المعنوية أننا نصلح أن نكون سفراء رائعين.
قوة شخصيةالرئيس عرفات لا تعني انه كان شخصا فرديا، على العكس كان هو الذي يشجعنا على الاختلاف معه، وكان يفرح بنا حين نختلف معه، وكان يرعى هذه الخلافات لان هناك طبعا فرقا بين الخلافات في الرأي وبين الخروج من البيت الفلسطيني، فهو صاحب شعار فتح العظيم "دع ألف زهرة تتفتح في البستان الفلسطيني" وكان يسعى دائما إلى أن تتفتح الزهور في الحديقة الفلسطينية وألا تغادرها وتذهب إلى حدائق أخرى.
إعلامي من الطراز الأول:
وعلى الرغم من أن الرئيس عرفات لم يكن خطيبا بليغا، إلا أنه كان يمتلك قلوب مستمعيه بكلمات بسيطة، وشعارات استمدها من وحي الثورة الفلسطينية ومراحل تكوينها، كما كان يستدل في كثير من خطاباته المرتجلة بأحاديث نبوية محددة "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين..."، وآيات محددة من القرآن الكريم: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين".
وكان الرئيس عرفات مع كل هذا إعلامياً بارزاً، تجلى حسن استخدامه للإعلام من خلال استقطاب عدد كبير من مراسلي وسائل الإعلام. وكان لديه باع طويل وصداقات واسعة النطاق على الصعيد الإعلامي العربي والدولي ، وقبل أن تعلن فتح عن نفسها في 1/1/1965 وعلى سبيل المثال، في احد مهرجانات الشباب لم يكن هناك شيء اسمه فلسطين ، وبالتالي لم يكن هناك دعوة لفلسطين حتى تشارك في هذا المهرجان الذي كان في دولة أوروبية، فذهب عرفات وتسلل من بين أسلاك وسياج الملعب الكبير الذي يجري فيه العرض، وفوجئ به الجميع وهو يقف بين الطوابير التي تسير وهو يحمل العلم الفلسطيني، وكان من الصعب جدا بعد أن التقطت تلك الصورة أن يخرجه أحد من هذا الاستعراض, هكذا كان الرئيس الشهيد.
سيبقى اسم "ياسر عرفات" شامخاً خفاقاً في سماء أمتنا
بقلم/ عباس م
يرتبط إسم الرئيس القائد "ياسر عرفات" بالقضية الفلسطينية منذ النكبة، حيث حمل القائد محمد القدوة "أبو عمار" هموم الشعب الفلسطيني وبدأ يفكر بانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة التي تعيد لهذا الشعب حقه المغتصب من الصهاينة، وهناك كان لقاء "أبو عمار" مع مجموعة من الشباب المتحمس لهذه الفكرة فبدأ العمل في بداية الأمر مع الشهيد القائد ورفيق دربه "أبو جهاد الوزير" والشهيد القائد "أبو إياد" والأخ المناضل "فاروق القدومي" حيث تمّ تأسيس إتحاد طلبة فلسطين وبدأت الخطوة الأولى من الكويت ومن ثم بدأت تصدر نشرة "فلسطيننا"، وبعدها بدأ التمهيد والتجهيز لانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في العام 1958 من خلال الاتصالات مع مجموعة من الإخوة المناضلين، فكانت الانطلاقة المدوية للثورة الفلسطينية المعاصرة من خلال إنطلاقة الطلقة الأولى على يد أبطال العاصفة في 1/1/1965 بأمر من الرئيس "ياسر عرفات".
وغداً حين يُكتَب تاريخ أمتنا على صفحة المجد للثورة الفلسطينية المعاصرة فسيكون إسم الشهيد القائد الرمز الفلسطيني العربي الزعيم الخالد الرئيس "ياسر عرفات" متصدراً أسماء كل قادة ثورات العالم حيث أنه واكبها جميعها ووقف إلى جانبها وإلى جانب إسم "أبو عمار" الزعيم الراحل الرئيس "جمال عبد الناصر" والشهداء القادة الذين ينحني لهم التاريخ أمثال أمير الشهداء "أبو جهاد الوزير وإخوانه "أبو إياد" و"أبو الهول" وفارس فلسطين الشهيد القائد "أبو العباس" الأمين العام لجبهة التحرير الفلسطينية ورمز الانتفاضة الشهيد القائد "أبو علي مصطفى" وشيخ المجاهدين الشيخ الجليل "أحمد ياسين" والدكتور "فتحي الشقاقي" و"سليمان النجاب" ومانديلا فلسطين "عمر القاسم" والقادة "زهير محمد" و"عبد الرحيم أحمد" و"طلعت يعقوب" و"سعيد اليوسف" و"وديع حداد" و"نبيل قبلاني" و"جهاد جبريل"، كل هؤلاء ستتصدر أسمائهم صفحات مجد شعبنا وأمتنا وسيكون إسم الرئيس "أبو عمار" كرمز لتجسيد العلاقة بين قضية فلسطين وقضايا الأمة والعالم.
وغداً أيضاً حين سيفتح تاريخ البشرية سجلاً فاضحاً لانتهاكات الدولة العنصرية في العالم وهي دولة الكيان الصهيوني وفي الوقت نفسه وفي عصر المطالبة بحقوق الإنسان وتصنيف القانون الدولي سيكون إسم الرئيس "ياسر عرفات" الذي اغتالته قوات الاحتلال الصهيوني بحصارها له في مقر المقاطعة في رام الله على مدار ثلاثة سنوات شديدة الوضوح فعملية الاغتيال واحدة على يد جزارين يمثلان وجهان لعملة واحدة ألا وهي عملية القضاء على القادة والمناضلين في أصقاع البلاد فها هو الأمر نفسه حدث حين تم اغتيال الشهيد القائد "أبو العباس" في معتقله الأميركي في العراق في ظروف غامضة.
واليوم نقف هنا لنودع هرماً من أهرام الزمن، فها هو "أبو عمار" يغادرنا ذاك القائد الذي أحببناه كأب لجميع الثوار والمناضلين ولكن ستبقى كوفيته في ذاكرتنا نحن أبناء الشعب الفلسطيني والأمة العربية باعتباره الرمز العربي الفلسطيني والقائد التاريخي للثورة الفلسطينية الذي حمل غصن الزيتون بيد والبندقية بيد أخرى، ليضع فلسطين على خارطة الأمم، ففي هذا الزمان ليس من السهل إيجاد قائد يملأ فراغه لأن الخبرة والثقة والروح القيادية العالية التي يتمتع بها "أبو عمار" من الصعب تعويضها.
أما في ما يتعلق بخلافة الرئيس الشهيد القائد الرمز "أبو عمار" فالثقة بالرئيس المناضل رفيق درب ابو عمار كبيرة في قيادة المسيرة الفلسطينية على ارض الوطن ووفي اماكن اللجوء والشتات والمنافي وذلك من خلال انتخابه رئيسا للسلطة الوطنية وللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وقد حدد الإستراتيجية السياسية الفلسطينية الجديدة لمستقبل القضية الفلسطينية من خلال بيانه الانتخابي، وعلى هذه الارضية نؤكد بان بات على جميع القوى والفصائل تحت تكون تحت سقف البيت المعنوي للشعب الفلسطيني منظمة التحرير لأن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والعمل على تفعيل مؤسساتها.
وهنا لا بد من القول أنه بالرغم من القلق إلا أننا لا يسعنا سوى الإيمان بقدرة الشعب الفلسطيني على تجاوز المحن والانطلاق مجددا نحو التأكيد على وحدة الصف وذلك من خلال الحوار الوطني وتحديد الصلاحيات بين للجنة التنفيذية والحكومة الفلسطينية التي تؤكد على جماعية القيادة والائتلاف الوطني وهذا ما نراه من خلال الإخوة المكلفين بمتابعة المهام.
وفي هذه اللحظات نفتقد "أبو عمار" الذي سيبقى إسمه شامخاً خفاقاً في سماء أمتنا، ونترحم عليه ويبكيه كل مَن أحبّه، وإن الشعب الفلسطيني والجماهير العربية والأحرار والشرفاء في العالم سيتازكروا وداعه في باريس والقاهرة ورام الله وفي كل أرجاء الأرض، ليمضوا قدماً في مسيرته، مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة ومسيرة الحفاظ على الثوابت الوطنية والانتفاضة والمقاومة وعلى رسالته التي خطّها بيده وأكد عليها ودفع ثمنها صموداً واستشهاداً وهي رسالة الاستمرار في طريق الثورة حتى النصر ورفع شبل من أشبال فلسطين علم فلسطين فوق مآذن القدس، فهذه أمنية "أبو عمار"، فالثورة مستمرة حتى تحرير كل الأراضي الفلسطينية المحتلة من رجس الاحتلال الصهيوني ولا تهاون ولا تنازل عن الثوابت الوطنية حتى استعادة حقوق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.